صحيح أنّ استقالة وزير الإعلام ​جورج قرداحي​ أتت متأخّرة لأكثر من شهر كامل عن موعد "استحقاقها"، إثر اندلاع أزمة غير مسبوقة في العلاقة بين لبنان و​دول الخليج​، يرى كثيرون أنّه كان بالإمكان "تداركها"، لو جاءت الخطوة "في وقتها"، لكنّها رغم ذلك، طرحت الكثير من علامات الاستفهام في الأوساط السياسية عن خلفيّاتها ومغازيها وتبعاتها.

وإذا كانت هذه الاستقالة مفهومة ومبرَّرة، في السياق والتوقيت، عشيّة الجولة الخليجية التي يقوم بها الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، والتي ستقوده إلى العاصمة السعودية الرياض، إضافة إلى كلّ من العاصمتين القطرية الدوحة والإماراتية أبو ظبي، فإنّها لم تحجب كمًّا من الأسئلة عن "الكرامة" و"الضمانات"، وغيرها من "تبريرات" الرفض السابقة للخطوة.

ولعلّ "الإشكاليّة" التي طرحتها الاستقالة تظهر جليّة في منصّات التواصل الاجتماعي، ولا سيّما في الحسابات "الحاضنة" لـ"حزب الله"، التي راحت في اليومين الماضيين "تلوم" وزير الإعلام على خطوتها، حتى إنّ بعض "النخبة" ممّن يناصرون الحزب "افتراضيًا"، لم يتردّد في التساؤل عن سبب "توريطهم" بمعركة "خاسرة"، طالما أنّ الوزير "سيخضع" في النهاية.

فكيف تُقرَأ استقالة وزير الإعلام في أوساط "حزب الله" وحلفائه؟ هل هي بالفعل "هزيمة" للمشروع السياسي لهذا الفريق، بعدما ذهب بعيدًا في رفع السقف، لحدّ الحديث عن "عدوان سعودي" على لبنان؟ وما صحّة القول إنّ الوزير قرداحي قُدّم "قربانًا" في هذا الإطار، "تداخلت" على خطه المصالح السياسية "المتقاطعة" بين أكثر من فريق؟.

الأكيد أنّ شيئًا ما تغيّر في المعادلة في الأيام الماضية، حيث رُصِد "تحوّل"، إن جاز التعبير، في مقاربة استقالة وزير الإعلام، أقلّه من ناحية "حزب الله" الذي نزع عنها "الفيتو" غير المُعلَن الذي كان قد فرضه منذ اليوم الأولى، تاركًا للوزير "الحرية" في الاستقالة من عدمها، بعدما تولّى سابقًا مدّه بكلّ أدوات "الإنعاش" لعدم الإقدام على أيّ خطوة، "تحت الضغط".

تجلّى ذلك مثلاً في التصريحات المتلفزة التي أدلى بها نائب الأمين العام لـ"حزب الله" ​الشيخ نعيم قاسم​، قبل ساعات قليلة من "بتّ" أمر الاستقالة، والتي اعتُبِرت في جانبٍ منها، "تمهيديّة" لها، حيث قال الرجل الثاني في "الحزب" إنّ قرداحي هو "صاحب القرار الأول والأخير"، وإنّ "حزب الله" سيدعمه أيًا كان القرار الذي سيتّخذه، أي سواء اختار الاستقالة أم بقي على موقفه.

سريعًا، تُرجِمت إشارات الشيخ قاسم، فباتت استقالة وزير الإعلام "أمرًا واقعًا"، بحكم "المَخرَج اللائق" الذي أمّنه "حزب الله" لها. يقوم هذا المَخرج على تصوير الاستقالة وكأنّها "قرار ذاتيّ" من الوزير، لا سيّما أنّها جاءت بعد شهر من اندلاع الأزمة، ما يعني أنها ليست "ردّ فعل"، ولا "انصياعًا أو خضوعًا" للضغوط، ولو أنّ الأخيرة لم تنتهِ فصولاً حتى اللحظة الأخيرة.

يقول وزير الإعلام، في معرض تبرير استقالته اليوم، إنّها جاءت "في التوقيت الصح"، عشيّة زيارة ماكرون إلى الخليج، ويوحي بذلك أنّه أراد إعطاء الرئيس الفرنسي "ورقة القوة" التي يريدها للتفاوض مع السعوديّين وغيرهم، خصوصًا بعدما أبلغ الجانب اللبناني صراحةً أنه قد لا يكون قادرًا على وضع الملف اللبناني للنقاش، من دون "مبادرة لبنانية" يستند إليها.

من هنا، يرفض قرداحي الراغب بـ"إراحة ضميره وتبرئة ذمّته"، كما "حزب الله" المؤيّد له ولمواقفه، تصوير الاستقالة وكأنّها "هزيمة"، فالأمر قد يفتح أفقًا للحلّ، وهذا مطلوب بالحدّ الأدنى، خصوصًا أنّ بقاء الأمور على حالها قد لا يكون خيارًا، بعدما ثبُت أنّ استمرار "القطيعة" لن يكون في صالح أحد في الداخل اللبناني، مهما حاول البعض "المعاندة".

لكن، طالما "الواقعية" وصلت إلى هذا الحدّ، ثمّة أسئلة "بريئة" تُطرَح: ألم يكن الأوْلى أن تأتي هذه الاستقالة قبل شهر من الآن، خصوصًا أنّ "منافعها" كانت أكبر بكثير، فيما باتت اليوم شبه "منعدمة"؟ وما الذي حلّ بشرط الاستقالة، أي "الضمانات" التي لا بدّ منها حتى تحقّق الغايات المرجوّة؟ لماذا تقديم قرداحي اليوم "قربانًا"، من دون أيّ "ضمان" أصلاً بأنّ السعوديين سيوافقون على فتح النقاش حول لبنان مع ماكرون؟.

يرى البعض أنّ "تقاطع مصالح" هو الذي دفع الأمور إلى هذا المنوال، وجعل قرداحي "الحلقة الأضعف"، إن جاز التعبير في المعادلة. فـ"حزب الله" مثلاً لا يمانع الاستقالة، وهو خفّض كثيرًا من سقف خطابه ضدّ السعودية على خلفيّة الأزمة، ولو أبقى على "مبدئية" لا بدّ منها، والأهمّ من هذا وذاك، أنّه يرغب في "تسليف" رئيس الحكومة موقفًا يطالب به منذ اليوم الأول، لعلّه "يسلّفه" في المقابل، موقفًا على خطّ ملف التحقيقات في ​انفجار مرفأ بيروت​.

أما "تيار المردة"، وهو الذي يُحسَب الوزير قرداحي عليه، فكان واضحًا منذ اليوم أنّه لا "يمانع" الاستقالة بحدّ ذاتها، لكنّه يرفض تحويلها إلى "هدية مجانية" لخصومه في "العهد"، وهو ما قاله رئيس التيار ​سليمان فرنجية​ صراحةً في تصريحات سابقة. وثمّة من يؤكد أنّ فرنجية، وإن قال إنّه يترك للوزير حرية القرار، وعد الفرنسيّين بحلّ الأمر معه، خصوصًا أنّه يسعى "لإرضائهم"، قبل أشهر من انتخابات رئاسية "يراهن" على دعمهم له خلالها.

أما الأطراف الأخرى، فليس سرًا أنّها بمجملها كانت "تحرّض" على الاستقالة من اليوم الأول، من رئيس الجمهورية الذي قارن الأسبوع الماضي بين تصرّف قرداحي وأداء وزير الخارجية السابق ​شربل وهبة​، إلى رئيس الحكومة ​نجيب ميقاتي​ الذي لم يترك مناسبة أو فرصة إلا واستغلّها لدعوة وزير الإعلام إلى الاستقالة، تحت ستار "تغليب المصلحة الوطنية العليا"، وكذلك رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، ولو تعمّد "النأي بالنفس" نسبيًا عن الأزمة.

منذ اليوم الأول، كان "محسومًا" لكثيرين أنّ وزير الإعلام سيستقيل، وأنّ الحكومة لن تجتمع مجدّدًا بحضوره. لكنّ البعض آثر "رفع السقف" تحت مبرّرات قد تكون محقّة ومقنعة، أولها رفض "الابتزاز والخضوع"، وثانيها "حرية الرأي والتعبير". أما النتيجة "الحتمية"، فيبدو فيها أنّ الكلّ "خاسر" ولو بصورة نسبيّة، حتى إثبات العكس.

استقال قرداحي من دون أيّ ضمانات، بعدما فقدت استقالته "قيمتها" برأي كثيرين، لا سيما وأنّ الرياض تجاهر بأنّ الأزمة "تجاوزت تصريحاته". ومعه، خسر "حزب الله" ورقة قوة، وتراجع خطوة للوراء. أما رئيس الحكومة فلن يكون "رابحًا"، طالما أنّ أزمة حكومته لم تُحَلّ بعد، ولا يزال عاجزًا عن عقد اجتماع لها. ويبقى "الأمل" أن تفتح الاستقالة "أفق حلّ"، أو بالحدّ الأدنى، "حوار" يخشى كثيرون أنّه لن يقدّم أو يؤخّر ما هو "مكتوب" بانتظار الانتخابات، إن حصلت!.