إنصرف النواب والطامحون لخوض الإنتخابات النيابية إلى إجراء حساباتهم في كل إتجاه، لكن طبيعة الأزمات الإقتصادية والإحتماعية في لبنان تحدّ من أعداد المغامرين، بإعتبار ان تكاليف الحملات الإنتخابية مرتفعة، والنتائج غير مضمونة، سوى لمرشحي الكتل والقوى الوازنة المقتدرة حزبياً وشعبياً ومالياً. لكن الأهم هو أن المقاعد النيابية لم تعد تجذب اللبنانيين، بسبب تبدّل الأولويات عند المواطنين، وعجز المنظومة السياسية عن فرض المعالجات السياسية والمالية وتبديد هواجس الناس المعيشية. سنسمع عن اعتكاف نواب عن المنازلات الانتخابية، للجلوس جانباً من دون أي ممارسة سياسية في بلد مهترئ.

لا يمنع الواقع السوداوي من تواجد شراسة سياسية نسبية، لكسب معركة انتخابية اساسية. ستكون الانتخابات المقبلة محطّة اختبار للقوى، لأنها الاستحقاق النيابي الاول بعد "حراك ١٧ تشرين الاول 2019". في الشكل، لا يمكن اعتماد المقاييس الشعبية ذاتها التي كانت تنطبق على ما قبل التاريخ المذكور. هناك حالات اعتراضيّة واسعة ستبرهن عن نفسها في الانتخابات الآتية. لكن المعطيات توحي بوجود عجز يمنع توحيد صفوف "قوى التغيير". ممّا يؤكّد ان الاصوات المحسوبة على تيارات "المجتمع المدني" ستتشتت وتغيب فعاليتها، وقد تعبّر عن ذاتها بمقاطعة الانتخابات، لتزداد نسبة ١٨٪؜ في كل دائرة على الممتنعين عن المشاركة بالإستحقاق الانتخابي النيابي.

لا تزال كل الخيارات مفتوحة، بكل اتجاه. واذا كانت اللوائح المعارضة الموحدّة مفقودة، هناك مشكلة ستواجهها القوى التقليدية: ماذا عن التحالفات؟ يوجد تناقض سياسي وموضعي واضح يبعثر التحالفات. يمكن عرض خريطة بسيطة لقراءة ابعادها:

التيار "الوطني الحر" هو حليف "حزب الله"، لكن الحزب حليف حركة "أمل" التي يشاكسها التيار البرتقالي. فماذا سيفعل "حزب الله" في بناء الأحلاف الانتخابية؟ هل يستطيع جمع حليفيه معاً في لوائح موحدة، أم ينظّم خلافهما بشكل لا ينسف طموحاتهم معاً في كسب الانتخابات؟ ستحتاج دوائر جزين وبعبدا وبعلبك وزحلة والمتن وبيروت وجبيل، إلى أن يبتّ "الوطني الحر" أمر تحالفاته فيها، واذا لم يكن هناك انسجام واتفاق بين التيار والحركة، فإن ذلك سيظهر في صناديق الاقتراع تباعداً. فماذا لو قرر "حزب الله" عدم التنازل عن حليفيه معاً؟ تلك تشكّل عقدة لم تتضح مشاهد فكفكتها سياسياً. علماً ان "الوطني الحر" يحتاج الى تحالفه مع "حزب الله" لكسب حواصل انتخابية مفقودة عنده في عدد من الدوائر: لا يمكن للتيار مثلاً، ان يحصل على حاصل انتخابي واحد في كل دائرة من دوائر البقاع الثلاث. كما ان "حزب الله" بحاجة الى تحالفه مع التيار لاعتبارات سياسية لا انتخابية.

ينسحب الأمر الانتخابي على التحالفات المُقابلة: لا سيناريوهات واضحة للعلاقة بين "المستقبل" و"القوات". مما يعني ان التباعد قائم بينهما، لغاية الآن. فلا يمكن للقوات ان تحصد مقاعد نيابية في عدد من الدوائر البقاعية والشمالية من دون حلف متين مع فريق سياسي اساسي كتيار "المستقبل". وكذلك، لا يمكن للتيار الأزرق ان يكسب مقاعد متعددة من دون حلفه مع قوى سياسية اساسية. ومن هنا تظهر ابعاد حركة رئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" ​وليد جنبلاط​ لجمع "المستقبل" و"القوات" في لائحته الانتخابية. تُظهر استطلاعات الرأي تراجع جنبلاط شعبياً، كما حال كل القوى والشخصيات السياسية التقليدية.

وعليه، يمكن استحضار التحديات التي تواجهها القوى والمرشحون: ما هي التحالفات؟ وما هي البدائل المُتاحة؟ هناك إرباك فعلي سيتظهّر في الدوائر الإنتخابية، على قاعدة ان الضرورات الانتخابية تحتّم العفو السياسي وطي الصفحات وبناء التحالفات الطارئة. كلما تقارب مرشحو "المجتمع المدني" او من يطلقون على انفسهم "قوى التغيير"، كلما توسعت التحالفات السياسية الانتخابية التقليدية، وكلما تباعد المرشحون "الثوريّون" ازدادت التمترسات السّياسية والحزبيّة. فلننتظر، انها انتخابات تختلف عن سابقاتها.