صحيح أنّ جزءًا كبيرًا من مشاكلنا في ​لبنان​ يعود إلى أسباب وإلى صراعات داخليّة، لكنّ الأصحّ أنّ تصاعد التوتّر على مُستوى المنطقة حاليًا، لا يُساعد إطلاقًا في الدفع نحو التوصّل إلى حُلول وتسويات من شأنها أن تريح الوضع اللبناني. والدلائل على تأزّم الصراع في المنطقة واضحة، والإنعكاسات على لبنان سلبيّة. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:

أوّلاً: إستمرار تعثّر المُفاوضات الخاصة بالملفّ النووي على الرغم من المُحاولات الأوروبيّة والغربيّة لنزع فتيل التوتّر، لكنّ العديد من الجهات رافضة لخيار رفع العُقوبات عن ​إيران​ بشكل مجّاني، وغير راغبة بالتالي بإعطائها القُدرة على مُعالجة أوضاعها الداخليّة المُتدهورة معيشيًا وحياتيًا، من دون إلتزام طهران بأيّ من المطالب المَرفوعة بموازاة المطالب الخاصة بملفّ ​الإتفاق النووي​. فالمسألة لا تنحصر بوتيرة تخصيب اليورانيوم، وبالعدول عن مساعي إمتلاك قُدرات نوويّة عسكريّة فحسب، بل تشمل أيضًا رغبة أميركيّة-​إسرائيل​يّة وكذلك عربيّة-خليجيّة، بإضعاف القُدرات الصاروخيّة المتوسّطة والبعيدة المدى لإيران، وبإلتزام هذه الأخيرة حدودها المُعترف بها دَوليًا، من دون الإنخراط أمنيًا وسياسيًا وماليًا في العديد من دول ​الشرق الأوسط​، أي في ​اليمن​ و​العراق​ و​سوريا​ ولبنان وقطاع غزّة. في المُقابل، تمضي طهران قُدمًا في تعزيز نفوذها الإقليمي، وهي تُقاوم العُقوبات منذ عُقود، لصالح نشر عقيدتها في أكبر مساحة جغرافيّة مُمكنة، مُستغلّة حالات عدم الإستقرار والصراعات والخلافات السياسيّة والطائفيّة في المنطقة. والتهديد الإيراني الجدّي لأمن وإستقرار الخليج، دفع هذه الدول إلى توقيع المزيد من عُقود التسلّح مع ​واشنطن​ و​باريس​ وغيرهما، وإلى الرضوخ للرغبة الأميركيّة بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.

ثانيًا: إنهيار المُحادثات التي كانت قائمة بشكل أو بآخر بين إيران والسُعوديّة، الأمر الذي إنعكس تصعيدًا خطيرًا للعمليّات القتاليّة في اليمن من جهة، وضُدّ المملكة العربيّة السُعوديّة من جهة أخرى. وليس بسرّ أنّ قوّات التحالف قامت بإعادة تجميع قوّاتها بشكل تكتيّ على أراضي اليمن، الأمر الذي أسفر عن خسارتها بعض المناطق والمواقع، لصالح تقوية قُدراتها القتاليّة في معركة مأرب بالتحديد، علمًا أنّ هذه المعركة تُعتبر إستراتيجيّة وبالغة الأهميّة لكلّ الأطراف. وفي الوقت الذي تكثّفت فيه الضربات الجويّة والغارات ضُدّ مجموعات "الحوثيّين" المُسلّحة، كثّف هؤلاء هجماتهم ضُدّ أهداف داخل السُعوديّة، عبر الصواريخ الباليستيّة والطائرات المُسيّرة عن بُعد. ولا يبدو أنّ هذا التصعيد سيخفت في المُستقبل القريب، في ظلّ إستشراس كبير بين الجهات المُتقاتلة، في مُحاولات مُتبادلة لكسر الطرف الآخر.

ثالثًا: ترافق التصعيد الأمني في المنطقة، مع تشدّد إيران في الدفاع عن نُفوذها السياسي في مُختلف الدول التي تتواجد فيها، عبر مدّ الجماعات المُؤيّدة لها بالسلاح والمال والدعم المَعنوي، في مُقابل مُحاولات خليجيّة مُتزايدة لإعادة بعض الدول العربيّة إلى الحُضن العربي، عبر الضُغوط القاسية حينًا وعبر المُحادثات الليّنة حينًا آخر، وحتى عبر الرهان على تغيّيرات مُحتملة في الإستحقاقات الإنتخابيّة. وهذه المُحاولات تطال كلاً من العراق وسوريا ولبنان وغيرها من الدول.

رابعًا: تصعيد الحرب على سوريا من قبل إسرائيل، وتجاوز لخطوط حمراء سابقة، على غرار ضرب أهداف في مرفأ اللاذقيّة التجاري، من دون مُعارضة من الجانب الروسي الذي يملك قواعد عسكريّة قريبة، أبرزها قاعدة حميميم الجويّة المُزوّدة بأحدث وسائل الدفاع الجوّي الروسي، ومنها صواريخ "أس 400". وإذا كانت الإعتداءات الإٍسرائيليّة الصاروخيّة على أهداف في الداخل السوري صارت شبه مُعتادة، من دون أيّ ردّ يُذكر من الجانب السُوري غير إطلاق بعض صواريخ أرض-جوّ الدفاعيّة، فإنّ الجديد تمثّل في إستهداف مناطق إستراتيجيّة حسّاسة كانت خارج الهجمات الإسرائيليّة حتى الأمس القريب، من دون أيّ تدخّل من الجانب الروسي.

وإنطلاقًا ممّا سبق، يبدو أنّ التسويات في المنطقة مؤجّلة بعض الشيء، والإتفاقات الإقليميّة والدَوليّة التي كانت مَوعودة عادت لتتأخّر ولتتأجّل إلى مرحلة لاحقة، علمًا أنّ الوقت ليس لصالح لبنان على الإطلاق. فكلّ دقيقة تمرّ من دون إستقرار الأوضاع في الشرق الأوسط ككلّ، ومن دون التوصّل إلى تسويات وسطيّة بين إيران ودول الخليج، يعني أنّ الإهتمام بالملفّ اللبناني لن يكون أولويّة، مع كل الإنعكاسات السلبيّة لهذا الواقع. بمعنى آخر، لن يكون أحد مُهتمًا بمد يد العون للبنان قريبًا، ولا بإنقاذه ممّا هو فيه، هذا إذا سلّمنا جدلاً أنّ الأطراف الإقليميّة المُتصارعة لا تُغذّي الإنقسامات اللبنانيّة، دفاعًا عن مصالحها.

في الختام، المُعادلة بسيطة: كلّما تأزّم الصراع في المنطقة، زادت الإنعكاسات السلبيّة على لبنان! والعكس صحيح. لكنّ هذا الأمر لا يعني على الإطلاق أن تقوم السُلطات اللبنانيّة المَعنيّة بالإستسلام للأزمة، وبتجاهل الإنهيار المُتصاعد من دون ضوابط، وبالتخلّي عن واجباتها الأساسيّة تجاه شعبها-كما يحصل حاليًا!.