وَقَفَ الشمّاسُ استفانوسُ أَمامَ مَجلِسِ اليَهودِ، وأَعلَنَ حَقيقَةَ إيمانِهِ فَرجَمُوه[1].

تُرى، مَاذا سَيكونُ جوابُ هذا القِدّيسِ الشَّهيدِ لَو طرَحَنا عَليهِ السُؤال التَّالِي: نَراكَ قد حَصَرتَ كُلَّ مَوضُوعِ الإيمَانِ بِالخَالِقِ بِالرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، لِمَاذا؟.

ويَبقى الجَوابُ ما قَالَهُ الرَّبُّ "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ"(متى ١٧:٥). وأيضًا "فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي." (يوحنا ٣٩:٥).

هَذا الكَلامُ يَنطَبِقُ على الشَّعبِ اليَهُودِيِّ إذِ العَهدُ القَديمُ مَلِيءٌ بِنُبُوءاتٍ عَن يَسوع، ولكن مَاذا عنِ الشُّعوبِ الأُخرَى؟

وهُنا أَيضًا يَأتِي ما أَوصَى يَسوعُ تَلامِيذَهُ بِهِ بَعدَ قِيامَتِهِ، خَيرَ جَواب: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». (متى ١٩:٢٨-٢٠).

نَعم، جَميعُ الأُمَمِ، لأنَّ يَسوعَ أتى للشُّعُوبِ قاطِبةً.

ومِمَّا لا شَكَّ فِيهِ، أنَّ هُناكَ جَمالاتٍ عِندَ كُلِّ الشُّعُوبِ، وهَذا لا يَتعَارَضُ بَتاتًا مَعَ ما قَالَهُ الرَّبُّ، لأنَّهُ قِمَّةُ الجَمَال، وكُلُّ حُسنٍ وصَلاحٍ يَكتَمِلُ بِه. ومَن بَحَثَ وغاصَ في سِيرَةِ يَسوعَ، وتَبَحَّرَ بِأقوالِهِ بَلَغَ هذا اليَقِين.

فَالبَحثُ لَيسَ فَقط مَطلُوبًا، بَل ضَرُورِيًّا، لأنَّ السُّؤالَ الّذي طَرَحَهُ الربُ على تَلامِيذِهِ، يَطرَحُهُ على كُلِّ الأجيَالِ: "وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا"؟(متى ١٥:١٦).

هَل سَيأتِي جَوابُنا ويَكُونُ–عَفوًا–بَبَغائِيًّا، لأنَّنا هَكذا تَربَّينا! لا. فَالمَطلُوبُ أن نَبحَثَ بِدَورِنَا ونَكتَشِف.

يَقولُ الصِّحافِيُّ والكاتبُ الكَنَدِيُّ Jean-Charles Harvey[2] "الإنسانُ بَاحِثٌ أَبَدِيّ، يَطمَحُ إلى غَيرِ المَحدُودِ، إلّا أَنَّهُ يَجِدُ المَحدُود[3]". نَحنُ لا نُشاطِرُهُ الرّأي، لأنَّ البَحثَ في العُمقِ يَصِلُ إلى اللّامَحدُودِ، إلى الله.

صَحيحٌ أنَّ الإنسانَ بِطَبِيعَتِهِ بَاحِثٌ، لأنَّهُ لَيسَ جَمادًا بل فِيهِ قُوَّةٌ Dynamisme. ولكن ليسَ أي قُوَّةٍ بَلِ القُوَّةُ الّتي مِنَ اللهِ، لأنَّهُ مَخلُوقٌ عَلى صُورَةِ اللهِ، وهُوَ في عُمقِهِ يَبحَثُ عَنهُ ليَتَّحِدَ بِهِ وَيَجِدَ السَّلامَ الحَقِيقيّ، أأَدرَكَ ذلِكَ أم لَم يُدرِك.

وهنا يَظهَرُ جمالُ اللّيتُورجية الأُرثُوذُكسِيَّة، إذ نُقيمُ في الأَحَدِ الثَّانِي قَبلَ المِيلادِ تَذكارَ أجدَادِ الرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ في الجَسَد، الّذينَ كانُوا قَبلَ الشَّريعَةِ وفي الشَّريعَة.

يَقولُ القِدّيسُ يُوستِينُوس الشَّهيدُ[4] في هذا الخُصوص: كُلُّ مَن تَتَّفِقُ سِيرَتُهُ والكَلِمَةَ، كان مَسِيحِيًّا. المَقصُودُ بِالكَلِمَةِ المَسيحُ. فَالمَجُوسُ مَثلًا لم يَكُونُوا يَهُودًا وأَتَوا بَاحِثِينَ عَنه.

وإذا تساءَلْنا، مَا الّذي جَعَلَ الفَيلسُوفَ أَثينادُورُوس الكَنعانيّ (٧٤ ق م-٧م) يَقُولُ: "إن رُوحًا قُدُّوسًا يَقُومُ في أَعماقِنا. وهُوَ مُراقِبٌ وحَارِسٌ لأفكَارِنا الصَّالِحَةِ والشِّريرَة"؟ يكونُ الجَوابُ: المَسيحُ الإلهُ الّذي لم يَكُن قد تَجَسَّدَ بَعد، لأنَّ في كُلِّ إنسانٍ بِذارٌ إِلَهِيَّةٌ تَتُوقُ إلى الله.

لِنَتَوقَّفْ قَلِيلًا عِندَ عِبارَةٍ لاتِينِيَّةٍ بَرَزَت بقُوَّةٍ في القَرنِ التّاسِعَ عَشَرَ ميلاديّ، وهِيَ Homo Religiosus أي "الإنسان الدّيني". وظَهَرَتْ تِباعًا تَفسيراتٌ مُختلِفَةٌ لها، فَمِنهُم مَن رَبَطَها بِالزَّعيمِ الدّينيّ، وآخرُونَ وَجَدُوا فِيها مَعنًى شُمولِيًّا فَتَكلَّمُوا على "إنسانٍ دِينيّ"، كَتَصنِيفٍ للإنسانِ وتَمييزِهِ عَنِ الحَيوان، مِثلَما قِيلَ عَنهُ بِأنَّهُ Homo sapiens أي إنسَانٌ يَملِكُ حِكمَةً ومَعرِفَة، فيُصبِحُ بِالتّالي "الدِّينُ" عِندَ الإنسانِ بِالفِطرَةِ وبِالطَّبِيعَةِ Par nature وبِحاجَةٍ إلى أن يَكتَمِل.

كما تَكلَّمُوا على تَوقٍ دَاخِليّ عِندَ البَشَرِ كبَحثٍ وُجُوديّ للاتِّحادِ بِصاحِبِ القِوى العُظمى، واعتَبرُوهُ قَلَقًا دِينيًّا Angoisse Religieuse. بِالمُقابِلِ بَرَزَت عِبارَةٌ أُخرى هِيَ "الإنسانُ الدَّهريّ Séculaire" أو "العِلمانِيّ Laïc".

وهَكذا اختَلَطَتِ الأُمورُ فأصبَحت "الدّينيّ والدّهريّ/العلمانيّ" في تَضادٍّ كَبير، وتَتبَادَلانِ الاتِّهامَات، وعلى الإنسانِ أن يَختَارَ بَينَهُما. فإن اختَارَ الأُولى أَصبحَ في مُواجَهَةٍ مَعَ الثَّانِيةِ والعَكسُ صَحيح. فَالدّينيُّ يَتَّهِمُ الدَّهريّ والعِلمانِيّ بِالمتَفلّت وأحيانًا بِالكُفر، وَالعِلمانِيُّ يَتَّهِمُ الدِّينيّ بِالتَّشَدُّدِ والقَمعِ والرَّجعِيَّةِ مُرَدِّدًا مَقولَةَ الفَيلسوفِ الألمَانِيّ Karl Marx الشَّهيرَةَ "الدِّينُ أَفيونُ الشُّعُوب".

ولَكِن المَسيحِيَّةُ الحقيقيّةُ بَراءٌ مِن كُلِّ هَذِهِ السِّجالات والممارسات عندما تَحدُث. فَيسوعُ تَأنَّسَ، ودَعانَا أن نَعِيشَ إنسانِيَّتَنا بِمَحَبَّةِ الإنجيلِ، وتَكونَ حَياتُنا الأرضِيَّةُ بِدايَةَ مُشوارِنا الأبَديّ مَعَه.

وغَيرُ صَحيحٍ أنَّ هُناكَ حَياةً رُوحِيَّةً مُنفَصِلَةً عَنِ الجَسد، ومِن غَيرِ المَسمُوحِ أن نُهمِلَ شُؤونَ الأرضِ، الوَطنِ والمُجتَمَعِ، ولا نَسعَى لِتَحقِيقِ العَدالَةِ فيها. وهذا تَحديدًا مَا نَطلُبُه في صَلَواتِنا، وإلاّ نَكونُ مُؤكِّدينَ لِقولِ Marx بِأنَّ الدِّينَ وَهمٌ وسِتارٌ لِطَبَقَةٍ حاكِمَةٍ ومُتَسَلِّطَةٍ على شَعبٍ يُشبِهُ ما ذَكَرَهُ عن البروليتاريّين Les Prolétaires ، وهُم شَعبٌ بَسيطٌ ومَوعُودٌ بِحالٍ أَفضَلَ لا يَتحَقَّق، وهَكذا يُصبِحُونَ أُناسًا مُخَدَّرِينَ ولا يَنتَفِضُون.

جُلَّ ما في الأَمرِ، أنَّ الرَّبَّ نَبَّهَنا ألا نَتعَلَّقَ بِما هُوَ فَانٍ مَهمَا عَظُم، وأن يَكُونَ "هُوَ" مِحوَرَ حَياتِنا، إكليريكيِّينَ كُنّا أم لا.

ولنَكُن أَكثَرَ دِقَّةً، المَسيحِيَّةُ لَيست دِينًا بِمَعنى الشَّرائِعِ والقَوانِينَ، بل هِيَ اللِّقاءُ العَظيمُ مَعَ الخالِق. وعِندمَا يَتِمُّ هذا اللِّقاءُ، ويَكتَمِلُ بالاتِّحادِ بِهِ بَعدَ التَنقِيَةِ والاستِنَارَةِ، نَتألَّهُ ونَحنُ ما زِلنا في الجَسَد.

وخِتامًا، يَقُولُ القِدِّيسُ يُوحَنَّا الذَّهبيُّ الفَم[5]، إذا أَتى الامبرَاطُورُ إلَينا وأَعطانا مِن مَجدِهِ، فَهَل نَعودُ نَطلُبُ مَجدَ وَزيرٍ عِندَه؟ بِالطَّبع لا.

لقد أَتى الخَالِقُ إلينا، وارتَضى أن يُصبِحَ إنسَانًا لِيَرفَعَنا إلَيهِ، وقَالَ لَنا:

أنا "هو"، مَدارُ كُلِّ بَحثٍ وتَفتِيش.

أنا "هو" إلهُكُم ورَبُّكُم ومُخَلِّصُكُم يَسوعُ المَسيح.

أنا "هو" مُشتَهى نُفُوسِ كُلِّ البَشَر.

وهُوَ يَدعُونا إلى مَائِدَتِهِ، فإنْ بَحَثْنا جَيِّدًا، وَجَدْنا أَنَّهُ قَد أَقامَ لَنا مَكانًا بِجَانِبِه.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] (أعمال الرسل ٧)

[2] (1891-1967)

[3] L'homme est un éternel chercheur. Il aspire à l'infini, il trouve le fini.

[4] (١٠٠-١٦٥م)

[5] (٣٤٧-٤٠٧م)