ليس بسرّ أنّ لبنان يمرّ حاليًا في أسوأ أزمة في تاريخه، وهي ليست أزمة إقتصاديّة-ماليّة فحسب، بل هي أزمة سياسيّة عميقة أيضًا، تتداخل وتتشابك فيها عوامل أمنيّة وسياسيّة وإقتصاديّة وماليّة، داخليّة وإقليميّة ودَوليّة، ناهيك عن تفشّي الهدر والفساد والسرقات على مدى عُقود، إلخ. والمُشكلة الكُبرى أنّ الخروج من هذا النفق المُظلم لا يبدو قريبًا، لأنّ السُلطات اللبنانيّة المَعنيّة هي في موقف العاجز أو المُتجاهل أمام المطالب العربيّة والغربيّة، لوقف الإنهيار الحاصل، ولوضع لبنان على سكّة النهوض الصحيحة، ولوّ بشكل تدريجي وتصاعدي. وقد بات واضحًا أنّ بدء الخروج من هذا النفق يستوجب التعامل بإيجابيّة مع سلسلة من المطالب الخليجيّة والدَوليّة، وهو ما لم يحصل حتى تاريخه، وهو ما قد لا يحصل في المدى المَنظور أيضًا!.

بالنسبة إلى المَطالب الخليجيّة فهي تكرّرت بصيغ مُختلفة مع بعض الإختلافات في خمسة بيانات ختامية، كان الجانب السُعودي المُحرّك الأبرز فيها، مع إحدى الدول الخليجيّة الأخرى في كل مرة(1). وبلغ الأمر حدّ تسمية "حزب الله" بالإسم ووصفه بالإرهابي في بعض البيانات(2). وهذه المطالب، تُقسم إلى جزئين، أحدهما قابل للتنفيذ، والآخر لا يُمكن تنفيذه لجملة من الأسباب. وفي هذا السياق، في حال صفت النيّات وإتخذ القرار المركزي من أعلى المراجع نُزولاً، يُمكن تنفيذ مطلب "إجراء إصلاحات سياسيّة وإقتصاديّة شاملة تضمن للبنان تجاوزه لأزماته"، أي عمليًا وضع خُطة إنقاذ إقتصاديّة-مالية، وإجراء إنتخابات جديدة تُعيد إنتاج السُلطة، إلخ. كما أنّه يُمكن تنفيذ مطلب "ألا يكون لبنان مُصدّرًا لآفة المُخدرات المُهدّدة لسلامة المُجتمعات في المنطقة والعالم"، أي عمليًا التشدّد إلى أقصى الدرجات على المعابر والموانئ الحُدوديّة، لضبط كل الصادرات بشكل حازم.

في المُقابل، إنّ مطلب "حصر السلاح بمؤسّسات الدولة الشرعيّة"، ومطلب تنفيذ القرارات الدَوليّة التي تحمل الأرقام 1559 و1701 و1680، هي مطالب تقف السُلطة التنفيذية في لبنان عاجزة ومُتجاهلة أمامها! فلبنان بعيد جدًا عن حصر السلاح بالجيش اللبناني وبالمؤسّسات الرسميّة، حيث أنّه لم يتمّ حتى البحث في "الإستراتيجيّة الدفاعيّة" ولوّ شكلاً، وصار "حزب الله" يملك تركيبة عسكريّة مُتكاملة لها إمتداداتها الإقليميّة التي تتجاوز الحُدود اللبنانيّة، والسلاح الفلسطيني في داخل المُخيّمات وحتى خارجها في بعض الأمكنة لا يزال خارج سياق البحث، وإنتشار مُخلّفات الأسلحة من أيّام الحرب اللبنانيّة بأيدي لبنانيّين مُناصرين لقوى حزبيّة تحوّل إلى أمر واقع تتجاهله القوى اللبنانيّة الأمنيّة الرسميّة. والخلافات بين اللبنانيّين عميقة على السلاح ودوره، أكان بيد "حزب الله" أو المُنظّمات الفلسطينيّة، ما شجّع باقي القوى على الإحتفاظ ببعض الأسلحة، وربّما على إعادة التسلّح ولوّ بشكل فرديّ غير مُنظّم.

وفي ما خصّ القرارات الدَوليّة، العقبات نفسها تظهر أمام التنفيذ، حيث أنّ من بين بُنود القرار 1559 "حلّ جميع الميليشيات اللبنانيّة ونزع سلاحها" و"سيطرة حُكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانيّة"، ومن بين بُنود القرار 1701 "إيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني تكون خالية من أيّ مُسلّحين ومعدات حزبيّة وأسلحة، عدا تلك التابعة للقوات المُسلّحة اللبنانيّة وقوات يونيفيل" و"التطبيق الكامل لبنود إتفاق الطائف والقرارين 1559 و1680 بما فيها تجريد كل الجماعات اللبنانيّة من سلاحها..."، ومن بين بُنود القرار 1680 "يُشجّع حكومة سوريا على الإستجابة بشكل إيجابي لطلب (...) تحديد الحدود المُشتركة (أي مع لبنان)، وخاصة في المناطق التي تُعتبر فيها الحدود غير أكيدة أو محلّ نزاع"... و"يهيب بحكومة سوريا أن تتخذ تدابير(...) ضُدّ إجراءات عمليّات نقل الأسلحة إلى الأراضي اللبنانيّة"، و"يدعو إلى بذل المزيد من الجُهود لحلّ جميع الميليشيات اللبنانيّة وغير اللبنانيّة ونزع سلاحها وإستعادة سيطرة الحكومة اللبنانيّة الكاملة على جميع الأراضي اللبنانيّة". وتنفيذ هذه البنود غير مُمكن من دون توافق داخلي لبناني شامل، ومن دون غطاء سياسي إقليمي ودَولي جدّي، وليس كلاميًا. وهذه القرارات التي تشمل عمليًا ضبط الحدود مع سوريا وترسيم كامل الحدود معها، وإيجاد واقع خال من الأسلحة على الحدود الجنوبيّة للبنان، وسحب الأسلحة من يد مُختلف القوى على الأراضي اللبنانيّة، وحصرها بالقوى الشرعيّة، تتطلّب إتفاقات إقليميّة ودَولية واسعة تفوق قُدرات لبنان ورغباته، إذا سلّمنا جدًلا أنّ السلطة في لبنان والشعب اللبناني من خلفها مُوحّدان خلف هذه المطالب، علمًا أنّ الواقع هو غير ذلك تمامًا!.

والأصعب من كل ما سبق أنّ لبنان العاجز والمُتجاهل أمام المَطالب السياسيّة والأمنيّة، لا يتّصف بجديّة أمام المطالب الرامية إلى وقف الإنهيار الإقتصادي-المالي، حيث أنّ تنفيذ المطالب ذات الخلفيّة المعيشيّة والحياتيّة لم يحصل حتى تاريخه. وبالتزامن مع زيارة المسؤول الفرنسي بيار دوكان المُكلّف عقد لقاءات مع كبار المسؤولين في لبنان، ومع عدد من الوزراء المَعنيّين، للإطلاع على مصير خُطة التعافي ومسار الإصلاحات، لم يضع لبنان بعد أيّ خطة إنقاذيّة إصلاحيّة، ولم يتعامل مع مطالب صُندوق النقد الدولي بالجديّة اللازمة، ولم يُباشر أيّ إجراءات من شأنها إعادة دوران الدورة الإقتصاديّة وتخفيف نسب البطالة وتسهيل وُصول الإستثمارات، إلخ. وحتى الغطاء المَعنوي الوهمي للإصلاحات غير موجود، في ظلّ إستمرار تخلّف الحُكومة عن الإجتماع، تحت وطأة تهديدات "الثنائي الشيعي"، وتحت عناوين سياسيّة-قضائيّة تتجاهل كليًا الواقع المُزري الذي بلغه الشعب اللبناني على مُختلف الصُعد.

في الخلاصة، المَطلوب من لبنان الكثير، عربيًا ودَوليًا، لكن إذا كانت المطالب الحياتيّة والمعيشيّة محض غير قابلة للتنفيذ، فإنّه من أضغاث الأحلام توقّع تنفيذ أيّ مطالب بخلفيّة سياسيّة وأمنيّة، وهذا يعني أنّ الغيمة السوداء باقية فوق رؤوس اللبنانيّين حتى إشعار آخر!.