لا أعرِفُ وطناً غيره، هذا اللبنان، إختار لنفسه أن يكونَ ثورةَ لقاءٍ مشتركٍ، أرضَ ميعادٍ روحيٍّ، مِحوَرَ لقاءِ أولياءِ الله، من مسيحييِّن ومُسلمين.

أقولُ ذلك، وأنا مُدرِكٌ أنَّه من اورشليم، قاتلةِ الأنبياءَ وراجمةِ المُرسَلينَ إليها، إلى أنطاكية مدينة الله العظمى، ومن روما قلب الكنيسة الى مكّة المكرّمة، ومن إثينا مُحرِّكة الفكر الى واشنطن مُعيدةَ تدويره... وحده لبنان شاءَ أن يكون مُلتقى النُسَّاك في المسيحيَّة، والأبدال في الإسلام. كلاهما منقطعان عن جنون العالم، وخداعه، وتصارعه الفكرو-ديني، يتشَّفعان له بإرتقائهما الى جوهر الله.

ولبنان سيعرف نتيجةَ خياره هذا تخبُّطات كبرى، فيه وحوله. ما همُّه، وهو المدرك أساساً أنَّ الله أكبر في تجلّياته من شرور الجنون البشري وخداعه وتصارعه.

في حكمته هذه دينونةٌ تقرع أبواب كُثُرِ: القيادات الروحيّة وتلك الزمنيّة المتلاعبة تارةً بالرياح، وطوراً بالمحاكمة، وفي الحالتين بالأنواء.

وهو الجريحُ حتى الإبادة من أورشليم وانطاكية وروما ومكّة وأثينا وواشنطن... حتى انقضاءِ الدهر، لا يأبه إلّا مُصالحة الجميع بدمائه الحيّة، شهادةً للأمم أنّ دَمَه المسفوك قانونَ خلاصِ الجميع.

أجل من طبيعةِ ميعاده الروحي هذا يؤكد لبنان أنَّ أرضه، والتي بالكاد تساوي أقلَّ لا سبع مراتٍ بل سبعين مرّةً سبع مرّاتٍ مساحاتِ الجميع، تشدُّ الجميعَ إلى غيرِ منطقِ العالمِ، لا بل تتجاوزُه إلى ما يفوقُه، في الكرامة البشريَّةِ التي لا غنى لها إلّا في حضرة الألوهة الحقّ.

المُشرِفون على العالمِ مِن منظارِ التصارعِ الفكرو-ديني، البشرُ عندَهم أدواتٌ للسَحق أو للإنسِحاق. وفي الحالين مطيّة.

أمّا لبنان فيَحيَا بالحقَّانيَّات، لأنَّها توحِّد بالفرادة، ولا تستكينُ إلّاّ بالتحرّر. إذ ذاك لا يُذعِن للجمود. وفي هذا التخطِّي المُستدَام لنفسه، لا يمنح أيّ توثُّبٍ فكرو-ديني إلّا ذاك المُلتَهِبَ ثورةً لا تُضيِّع روحَهَا.

ألا إعتَرِف معي، وآمن، أنَّ هذا اللبنانَ المَرميُّ من العالمِ وفي جنون العالمِ، لغايةِ سلخِهِ عن المُطلق كي يَستسلم لِجنونِ العالمِ وجهالتِهِ، يَهِبُ العالمَ مِعناَهُ الذي من دونِه لا حياة للعالمِ.

غاية الميعاد الروحي... أرض

آن للبنانَ الحقيقة وللبنانييِّن اللبنانييِّن أن يُدرِكوا أنَّ سيادة حُكمِ وطنِهِم وشرعيَّته في العالمِ وقفٌ عليهم. ولبنان العميم هذا غايتُهً، كميعادٍ روحيٍّ، الذهابُ إلى الأقصى... وبلوغه.

وغايتُهُ هذه مرتبطةٌ بالتفجّرات الفكرو-دينيّة الحقّة، تلك التي تَعي تحديداُ أنَّ حَضرَةَ الإنسانِ لا تَستكينُ في الظلمات، وحضرةَ الله لا تَنحصرُ بالإحسانِ، وحضرَتَهما المشتركة، وما فيها من إلهامٍ وطاقاتِ تغييرٍ، تبقى ثورةُ أرضٍ...

ألا فلنَعتَرِف، معاً، ونؤمن، نحن اللبنانيِّينَ اللبنانييِّنَ أنَّ بِيَدِنا سِرُّ الحياة، لأنَّ الـ"نحن" إختَبَرَت سِرَّ الموت. وما من عالمٍ يبلغُ الحياة، بعد جنونِ معاصيه إلّا بمَصلوبيّتنا عنه... وقد أدركنا مِعناها، وبَلَغنا حقيقتَنا من ثورَتنا.

نحنُ المولودونَ في الظُلمِ الناتجِ عن التظَّلُّم.

بهذا الإستقطاب، هَديرُ القِبلَة حيثُ يتَّجه التوق، كلّما هبّت فواجع، أو إنتَشَت عواصف، او عانَدَت تمزُّقات.

الأصلً أن نتحرَّر لنُحرِّر.

صعبٌ لبنانُ الحريَّة؟.

إنَّه أكثر من مُعاندةٍ وأبقى من دعوة! إنَّه أقوى من تمَرُّد وأنقى من حدٍّ أقصى!.

الأصعب في كونِه أرض الميعادِ الروحيِّ، أيّ مِحوَر الإخلاصِ الذي يدور حولَه المصيرُ، أن لا حريّة للعالمِ... من دونِهِ!.