على الرغم من الإنهيار الحاصل والمَفتوح على مُختلف الصُعد، يُمكن القول إنّ أغلبيّة القوى السياسيّة دخلت منذ اليوم في مرحلة العدّ العكسي للإنتخابات، في ظلّ الكثير من الآمال بُحصول تحوّلات كُبرى في الواقع القائم، لكن وفق تمنيّات مُختلفة وحتى مُتناقضة جذريًا، بحسب وجهة نظر كل جهة حزبيّة أو سياسيّة معنيّة ب​الإنتخابات​. فهل سيُؤمّن الإستحقاق الإنتخابي التغيير المَنشود فعلاً، أم أنّ كل ما يُحكى عبارة عن أوهام وعن مُزايدات إنتخابيّة لا أكثر؟.

بداية لا بُد من الإشارة إلى أنّ من الصعب جدًا إجراء قراءة لنتائج الإنتخابات المُرتقبة، قبل حسم تاريخ تنظيم هذه الإنتخابات، وقبل معرفة طبيعة التحالفات التي ستقوم، وقبل تحليل طبيعة وتركيبة وعدد اللوائح الإنتخابيّة التي ستتنافس، وخُصوصًا قبل معرفة المزاج الشعبي العام عشيّة إجراء الإنتخابات، بحسب الأوضاع التي تكون سائدة في لبنان عندها من مُختلف النواحي. لكن، حتى إذا إستعرضنا كل الإحتمالات الواردة، نجد أنفسنا أمام أفق مسدود، بحيث أنّ ما يُحكى عن تغيير جذري في الأوضاع القائمة، هو غير صحيح. وذلك لأسباب عدّة، هذه أبرزها:

أوّلاً: طبيعة القانون الإنتخابي النسبي، تسمح لأيّ جهة تتمتّع بشعبيّة لا بأس بها، من الوُصول إلى ​المجلس النيابي​. وهذا الواقع ينطبق على مُختلف الأحزاب والتيّارات اللبنانيّة الأساسيّة، بغضّ النظر عن حجم التراجع الّذي سيطالها على مُستوى عدد النوّاب الإجمالي. بمعنى آخر، مهما كانت النتائج مُفاجِئة، فإنّ القوى السياسيّة مثل "حزب الله" و"أمل" و"التيّار الوطني الحُر" والقوات" و"المُستقبل" و"الإشتراكي" وغيرهم، ستعود إلى المجلس النيابي بأحجام مهمّة، حتى لو طرأ تغيّر أو حتى تراجع في عدد نوّاب أيّ منها. وهذا الواقع حتمي ليس فقط لأنّ لهذه القوى قواعد شعبيّة ثابتة وراسخة لا تُغيّر في ولائها بسُهولة، بل لأنّ الإنقسامات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة في لبنان تُغذّي هذا التوجّه أصلاً، وتدفع إلى بقائه مهما إشتدّ الإنهيار الحاصل، ومهما بلغ حجم النقمة الشعبيّة على كل شيء!.

ثانيًا: الحديث عن وُصول مجموعة كبيرة من خارج القوى الحزبيّة المَعروفة لا يؤمّن أيّ تغيير جذري بدوره. فهذه القوى التي تُصنّف نفسها "ثوريّة" و"مُعارضة لكامل المَنظومة السياسيّة" وبأنّها "تُمثّل المُجتمع المدني"، لا تزال حتى اللحظة غير مُوحّدة، وكلّ الدلائل والمؤشّرات الحالية تُوحي بأنّه لن يكون هناك لوائح مركزيّة مُوحّدة لهذه القوى، حيث سيتوزّع المُرشحون على أكثر من لائحة، منها مُستقلّة في الظاهر عن أيّ تأثيرات حزبيّة، ومنها مُشتركة مع قوى حزبيّة معروفة مثل حزبي "الكتائب" و"الشيوعي"، إلخ. ومنها ستقوم بتحالفات مناطقية مع شخصيّات مناطقيّة، مثل النائبين المُستقيلين ميشال معوّض، ونعمة إفرام، أو مثل النائبين الحاليّين فؤاد مخزومي، وميشال ضاهر، أو غيرهما. وبالتالي، لا أمل بأن تفوز "القوى التغييريّة" بأعداد كفيلة بقلب الموازين داخل المجلس التشريعي، بسبب الإنقسامات في صُفوفها أوّلاً، ولأنّ الكثير من الجهات تعتبرها غير مُستقلّة ولا تغييريّة ثانيًا، بل هي موالية سرًا لهذا الحزب أو ذاك، ولهذه السفارة أو تلك، إلخ. وفي كل الأحوال، إنّ الفوز بكتلة "مُستقلّة" تضمّ 20 نائبًا على سبيل المثال، سيُشكّل حتمًا مجموعة وازنة وضاغطة في البرلمان، لكن لن يكون بمقدورها إحداث التغيير الجذري في توازنات لبنان الداخليّة الدقيقة.

ثالثًا: إنّ تغيّر الأكثريّة الحاكمة الحاليّة لا يعني أنّ التغيير المَنشود في الأداء سيحصل، والأمثلة على ذلك كثيرة من البرلمانات التي جرى إنتخابها منذ العام 2005 حتى اليوم. وليس بسرّ أصلاً أنّ أيّ تغييرات سياسيّة كبرى في لبنان، تدفع الأقليّة إلى لعب دور المُعرقل لحكم الأكثرية، وهذا ما حصل في العقدين الأخيرين. والأمر لا يحتاج أصلاً لكتل مُعارضة وازنة لعرقلة سير الحُكم في بعض الحالات، حيث أنّ "الثنائي الشيعي" الذي يحول حاليًا دون إجتماع ​مجلس الوزراء​ بسبب خلافات سياسيّة-قضائيّة، كان نجح في السابق في عرقلة الكثير من القرارات، وفي شلّ إنتاجيّة مجلسي النواب والوزراء، تحت غطاء الدفاع عن "الميثاقيّة". ولا شيء يمنع من تكرار هذا الأمر في المُستقبل، من قبل أكثر من جهة قادرة على تنفيذ هذا الأمر، ولوّ أنّ "حزب الله" هو الأكثر قدرة على ذلك، بسبب السلاح الذي يملكه. وبالتالي ماذا ينفع أن تتغيّر الأكثريّة، طالما أنّ ​الشعب اللبناني​ مَقسوم، وطالما أنّ فوز أيّ جهة سياسيّة على أخرى، سيُؤدّي تلقائيًا وفورًا إلى تكتلات سياسيّة مُضادة لمُواجهة الفائز، علمًا أنّ الإنقسامات الحالية باتت ضُمن الفريق الواحد، وليس بين فريقين سياسيّين مُتواجهين فحسب؟!.

وإنطلاقًا ممّا سبق، بإمكان القوى اللبنانيّة الحديث عن تغيير جذري مُتوقّع ومَنشود في خلال الإنتخابات المُقبلة، لكنّ الحقيقة هي غير ذلك بالتأكيد، حيث أنّ أغلبيّة من اللبنانيّين صارت مُقتنعة بأنّ كل ما يُحكى عن إصلاحات إقتصاديّة وماليّة وإجتماعيّة، وعن مُكافحة فساد ووقف للهدر، وعن تطوير للإدارة ولهيكليّة مؤسّسات الدولة، وعن سوق المُجرمين والفاسدين والسارقين إلى العدالة، وعن خُطط تطويريّة لدور لبنان في ​الشرق الأوسط​، وعن تغييرات في البنية السياسيّة الداخليّة وفي التوجّهات الخارجيّة للدولة، وعن عودة لبنان إلى أدواره السابقة في المنطقة، إلخ. ما هو سوى رمي لأوهام لن تتحقّق، وذلك لمصالح إنتخابيّة لا أكثر!.