لافتًا كان البيان الأخير للهيئة السياسية في "​التيار الوطني الحر​"، ولا سيّما في شقّه المتعلّق بالتحقيقات ب​انفجار مرفأ بيروت​، حيث وجّه نقدًا صريحًا ومباشرًا للمحقق العدلي ​القاضي طارق البيطار​، متهمًا إياه بـ"الاستنسابية والمماطلة"، كما حمّله بشكل أو آخر، مسؤولية "الظلم" الذي يلحق بالموقوفين المتهمين بمعظمهم بالإهمال الإداري، ممّن لم يرتكبوا أيّ ذنب.

وإذا كان صحيحًا أنّ هذه الانتقادات قد لا تكون الأولى من نوعها، فقد سبق أن طرح رئيس "التيار" الوزير السابق ​جبران باسيل​ "إشكاليّة الاستنسابية" في أكثر من مناسبة، إلا أنّ اقتصار البيان على "الانتقاد"، دون أيّ إشارة إلى "دعم" المحقق، أثار الكثير من علامات الاستفهام حول "الدلالات" التي قد يعنيها، في ظلّ الحديث المتواصل عن "تسوية" على حسابه.

بهذا المعنى، فُسّرت الفقرة "النقدية" لأداء المحقّق العدلي في بيان "التيار" على أنّها بمثابة "تخلٍّ مُعلَن" من جانب "العونيّين" عن قاضٍ صنّفه البعض على أنّه "محسوب عليهم"، وقيل إنّهم من منحوه "الحصانة" لمواصلة عمله حتى النهاية، ولم يتردّد البعض، ولا سيما في "​حركة أمل​"، على اتهامه بـ"تلقي التعليمات" من بعض المستشارين الرئاسيين بشكل مباشر.

فهل صحيح أنّ "التيار الوطني الحر" تخلّى عن المحقق العدلي، مقابل بعض "المكاسب السياسية" الآنيّة، على أبواب الانتخابات النيابية التي بدأ عدّها العكسيّ؟ وهل يمكن أن يقبل جمهور "التيار" مثل هذا التخلّي، وهو الذي أبدى في الآونة الأخيرة "نفورًا" من أداء "الحليف"، أي "​حزب الله​"، رافضًا كلّ الذرائع عن "خصوصيّة" تبرّر له "الحرب" على القاضي البيطار؟.

بالنسبة إلى المحسوبين على "التيار الوطني الحر"، فإنّ كلّ التفسيرات التي أعطيت لبيان الهيئة السياسية الأخير، والاستنتاجات التي ترتّبت عليها، رابطة إياها بتسوية "على رأس القاضي"، من دون أيّ دليل على صحّتها، كانت "مضخّمة"، وبالتالي فلا يمكن البناء عليها، خصوصًا أنّها استندت على ما يصفونه بـ"تحوير للحقائق"، لا شكّ أنّه "متعمَّد".

يستغرب هؤلاء ما يعتبرونه "ضجّة مفتعلة" على بيان الهيئة السياسية، في حين أنّ ما قالته ليس بجديد، فرئيس "التيار" الوزير السابق جبران باسيل لطالما تحدّث عن "استنسابية" ظاهرة في أداء المحقق العدلي، لكنّه كان يدعو إلى انتظار صدور القرار الظنّي، ليتمّ الحكم عليه بناءً على الخلاصات النهائية التي سيتوصّل إليه.

أما وقد تأخّر هذا القرار الظنّي، فكان لا بدّ، برأي هؤلاء، من رفع الصوت مجدّدًا، لأنّ التأخير في التحقيقات طال كثيرًا، ولو أنّ البعض يعتقد أنّ المحقّق العدلي لا يتحمّل وحده المسؤولية عن ذلك، في ظلّ الضغوط التي يتعرّض له، ودعاوى "كفّ اليد" التي لا تتوقف بحقه، ما يؤدي إلى "تجميد" التحقيقات مرارًا وتكرارًا.

أكثر من ذلك، يلفت المحسوبون على "التيار" إلى أنّ الأخير تبنّى قضية "الموقوفين ظلمًا" منذ فترة طويلة، وبالتالي فإنّ إشارة البيان إليهم لم تكن الأولى من نوعها، ومن يتابع إعلام "التيار" مثلاً، يدرك "الحيّز" الذي يحظى به هؤلاء، الذين سبق أن رفع رايتهم أكثر من قيادي في "التيار"، متحدّثًا عن "مظلومية" يتعرّضون لها.

وفي معرض "الدفاع عن النفس"، يشير المحسوبون على "التيار" إلى أنّ البيان نفسه الذي حوّله البعض إلى ذريعة "للانقضاض" عليهم، حمل بين طيّاته نقدًا واضحًا ومباشرًا لـ"شركاء" التسوية المزعومة، على خلفيّة استمرار تعطيل جلسات مجلس الوزراء، وبالتالي فهو لا يمكن أن يرقى لمستوى "الانقلاب"، كما يوحي بعض خصوم "التيار"، لغايات "معروفة" وفق قولهم.

وإذا كان ما يقوله المحسوبون على "التيار" يبدو منطقيًا وواقعيًا، ثمّة بين خصومه، أو المتوجّسين من "انقلابه" على المحقّق العدلي، من يطرح العديد من علامات الاستفهام، فلماذا اقتصر البيان على "التصويب" على القاضي، كما يفعل "الثنائي" تحديدًا، من دون أيّ إشارة إلى دعمه، كما اعتاد أن يفعل، ولو من باب العمل على إيجاد "التوازن" المطلوب؟!.

ويسأل هؤلاء عمّا إذا كان "التيار" لم يجد من المناسب تأكيد دعمه للمحقق العدلي في وجه الضغوطات التي يتعرّض له، والتي تكبّله وتقيّد عمله، علمًا أنّها تزداد وتتكثّف، وكان آخرها اتهامه من قبل رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ بأنّه "متآمر"، والكلّ يدرك ما كان يقصده "الأستاذ"، الذي لا يتوانى بعض المحيطين به عن اتهام القاضي البيطار صراحةً، ومن دون مواربة، بتلقي "الأوامر" من قبل الفريق المحسوب على "العهد" بشكل مباشر.

من هنا، يجد هؤلاء الكثير من الأسباب التي تدفع إلى الاعتقاد بأنّ بيان "التيار" النقدي حصرًا لأداء المحقّق العدلي كان "مقصودًا"، إما بهدف تحضير "القاعدة الشعبية" للتسوية المنتظرة، التي ستتطلب "قواعد اشتباك" جديدة في السياسة والقضاء، وإما بهدف "جسّ النبض" حول موقف الجمهور من "التسوية"، في حال وصلت إلى "خواتيمها"، ودخلت حيّز التنفيذ، وهو ما قد يكون قرار ​المجلس الدستوري​ المنتظر، إن صدر، أول "تباشيره".

ينفي "التيار الوطني الحر" أن يكون قد تخلّى عن المحقق العدلي، ويصرّ على أنّ لديه "ملاحظات مشروعة" على أدائه لطالما عبّر عنها، لكنّ "مصادفة التوقيت" بين انتقاداته وتسريبات "التسوية" تبرّر، برأي خصومه، طرح الكثير من علامات الاستفهام، فلماذا لم ينتظر صدور القرار الظنّي ليعبّر عن هواجسه؟ ولماذا لم ينتظر على الأقلّ صدور قرار المجلس الدستوري لمنع الربط بين الأمرين "المتزامنين"؟!.