لم يكُن الوضعين المعيشيّ والاقتصاديّ في بدايات القرن التّاسع عشر في لُبنان أَفضل بكثيرٍ ممّا هو الوضع الآن، في نهاية العام 2021. ففُصول كتاب التّاريخ عندنا غنيّةٌ ومُتنوّعةٌ بأَلوان البؤس الممزوج بالصّمود المُتواصِل والإِرادة الصّلبة الفولاذيّة!... كما وقد يكون من المُفيد في هذا الإِطار أَنْ يُنشّط اللُبنانيُّون ذاكرتهُم، لإِيجاد مُقاربةٍ تاريحيّةٍ تُستَوحى منها الحُلولُ لمُعضلاتهم المُزمنة... بعدما بات حتّى رغيف الخُبز، بات يُشكّل هاجس اللُبنانيّ، بعدما تضاعف سعر صرف الدّولار في السّوق السّوداء 18 ضُعفًا، إِذا ما اعتبرنا أنّ سعره في هذه الأَيّام على هامش الـ27 أَلف ليرةٍ للدّولار الواحد... وقد انسحب جُنون الدّولار على الأَسعار الّتي سحقت أَيّ "قُوّةٍ شرائيّةٍ" لمئات آلاف اللُبنانيّين في القرن 22...

في القرن 18 لم يكُن تأثير العُملة الأَجنبيّة على هذا النّحو، بَيْد أَنّ مَن لم يجُعْ لسببٍ جاع لسببٍ آخر!... إِذ تعدّدت الأَسباب فيما أَحزمة البُؤس الجماعيّ واحدةٌ!... غير أَنّ جشع التجّار يبدو وكأَنّه "أَبديٌّ سرمديٌّ لا يزول... وهو حتمًا أَقدم بكثيرٍ مِن 200 سنة، حين كان على رأس الكنيسة المارونيّة البطريرك يوسف التيّان!.

إِذًا، ما يعيشه اللُبنانيُّون اليوم، ليس وإِن تفاوتَت الظّروف في شأنه، وكذلك تفاوتت مُستويات التحدّي والصّعاب، ليس بسابقةٍ ولا هي حالٌ فريدةٌ!... بَيدَ أَنّ الكنيسة المارونيّة تسعَى دئمًا إِلى استيعاب الأَزمات والمُساهمة –مِن جانبها– في تحسين الأَوضاع ولَو مُذريةً... وفي حال الحاجة، لا حرَج في طلب المُساعدة مِن الكُرسيّ الرّسوليّ، المُستعدّ دَومًا لإِرسال قُصّادًا، يُساهمون في قيام مجامع مارونيّةٍ، بهدف المُساهمة في تنظيم صُفوف المَوارنة داخليًّا، ما ينعكس عليهم إِيجابًا.

لقد كان قبل ذلك بكثيرٍ ممّا ستُطلَق عليه سياسيًّا –في ما بعد- تسمية "المارونيّة السّياسيّة". فالمارونيّة كمرجعيّةٍ دينيّةٍ، وكمُكوِّنٍ أَساسيٍّ مِن مُكوّنات المُجتمع اللُبنانيّ الغنيّ، قد أَدّت دورها الوطنيّ بشهامةٍ وأَصالةٍ مُفعمَتَيْن بالوطنيّة الخالصة الصّادقة النّقيّة... ولطالما حملت المارونيّة رسالةً وطنيّةً هدفت إِلى السّموّ بلُبنان ودفعه قُدمًا!.

لقد كتب الطّالب مارك عبّود في مقدّمة الفصل الأَوّل مِن أُطروحة دكتوراه عن البطريرك المارونيّ يوسف التيّان (ص 41): "قد ساهم في بلورة هذا التّنظيم (الكنسيّ)، وجود البطريرك اسطفان الدّويهي على رأس الإِكليروس المارونيّ في بداية هذا القرن، وكان له الفضل السّبق في تنظيم الكنيسة المارونيّة رعويًّا ورهبانيًّا وتربويًّا، وفي ضبط تاريخها ولاهوتها وليتورجيّتها. وهذا ما أَظهر أَيضًا حقوق الأَقليّات الدّينيّة في الشّرق، فساهم في زرع بُذُور الكيان اللُّبنانيّ"...

ويُعدّ البطريرك يوسُف التيّان الّذي تبوَّأَ السُّدّة البطريركيّة أَربعًا وعشرين سنةً (1796-1820)، مِن الشّخصيّات المُهمّة في تاريخ "لُبنان"، بَيْن أَواخر القرنَيْن الثّامن عشر والعقد الأَوّل مِن القرن التّاسع عشر. وهو –إِلى ذلك- مِن البطاركة الإِصلاحيّين، فيما لسان حال اللُبنانيّين اليوم، ينطق بالإصلاح... وبالصّلاح العامّ!.

كما ولم يكُن يوسُف التيّان، خريّج روما، بعيدًا مِن مُواكبة الشّأْن التّربويّ. وقد دأَب منذ تولّيه السُّدّة البطريركيّة، على مُتابعة رسالة أَسلافه البطاركة...

وأَورد عبّود في أُطروحته: "كذلك فقد اهتمّ (البطريرك التيّان) في شكلٍ خاصٍّ بالنّظام الماليّ والاقتصاديّ للبطريركيّة، وكان من أَكثر المُدافعين عن الأَوقاف المارونيّة في وجه مَن أَراد الاستيلاء على بعضها... (الفصل الرّابع –المقدّمة– ص 159).

وقد نظّم التيّان في سنة 1817 مؤتمرًا اقتصاديًّا لمُكافحة جشع التُّجّار، وحماية الفُقراء، في أَثناء إِقامته في "دير مار يوحنّا مارون". وكذلك أَصدر خلال المؤتمر، "حرمًا في حقّ تجّار البترون، بسبب مكاسبهم الكبيرة".

وممّا لا شكّ فيه، أَنّ مؤتمرًا كهذا، وقرارًا بالحُرم كهذا، من مرجعيّةٍ كبيرةٍ وموثوقةٍ، قد زرع بُذور الثّورة لدى عامّة الشّعب، للمُطالبة برفع الظّلم عنهم، وللحُصول على حقوقهم. ومِن هُنا السُّؤَال: هل ثمّة دورٌ للتيّان، في تغذية رُوح التّحرُّر لدى عامّة الشّعب؟ بخاصّةٍ وأَنّ بداية الثّورات الشّعبيّة كانت بعد فترةٍ بسيطةٍ مِن وفاته؟...

وللحديث تتمّة...