إلى "لا قرار"، خلصت مداولات المجلس الدستوري في الطعن المقدّم من تكتّل "لبنان القوي" بشأن التعديلات التي أقرّها البرلمان على قانون الانتخاب، بعد استنفاد مهلة الشهر القانونية المُتاحة أمامه كاملة، في "سابقة" لم تسجَّل من قبل، وإن شهد تاريخه غير البعيد على "اهتزازات" من نوع عدم التئامه ببساطة، عبر تكتيك "تطيير النصاب".

في الظاهر، قد يُقرَأ الأمر، ببساطة لا تشبه السياسة اللبنانيّة بطبيعة الحال، على أنّه "أمر يحدث"، ولو لم يكن "محبَّذًا"، إذ اجتمع قضاة المجلس الدستوري لبحث قضية معيّنة مطروحة أمامهم، لكنّ آراءهم تباينت واختلفت، وذلك وارد في الشؤون القانونيّة والدستوريّة، ولم يستطع أيّ فريق "إقناع" الطرف الآخر بصوابية رأيه، فانفضّت الجلسة إلى "لا قرار".

وإذا كان مثل هذا "السيناريو الأفلاطوني" يطرح "إشكاليّة" أخرى، حول من "يبتّ" بالقوانين "الجدليّة" في هذه الحالة، فإنّ المشكلة تكبر حين يوضَع ما حدث في سياقه، فقبل يومٍ واحد من "اللا قرار"، كانت كلّ التسريبات تتحدث عن "قبول الطعن"، لكن في إطار "تسوية"، أو ربما "مقايضة"، بين أركان الحكم، تفضي إلى ما يسمّى بـ"تقاطع المصالح".

لكن، سرعان ما تغيّرت المعادلة. اصطدمت "التسوية" بالشروط والشروط المضادة. تبرّأ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي منها، وتنصّل "التيار الوطني الحر" من بعض "بنودها"، فكانت النتيجة أن "طارت التسوية"، وسقط معها "الطعن"، في تكريس لمبدأ "التدخّلات". فمن هم الرابحون والخاسرون ممّا حدث؟ وهل صحيح أنّ ما حصل شكّل "انتصارًا" لخصوم "التيار"؟!.

قد لا يكون مبالَغًا به تصنيف الوزير السابق جبران باسيل بين "الخاسرين" نتيجة قرار المجلس الدستوري، وقد عبّر عن ذلك شخصيًا في المؤتمر الصحافي الذي عقده بعيد صدور القرار، وصوّب فيه بشدّة على الحلفاء والخصوم، على حدّ سواء، متحدّثًا عن "تحالف رباعي" في مواجهة فريقه السياسي، ومتوعّدًا بالردّ "المناسب" بعد الأعياد.

يقول البعض إنّ الخسارة "معنوية" بالدرجة الأولى، لأنّ "التيار" أراد توجيه "ضربة" من خلال الطعن لرئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يتّهمه "العونيّون" بمخالفة الدستور، خصوصًا بطريقة احتساب الأكثرية في ظلّ النقص بعدد النواب، ولذلك قدّموا "طعنًا مبكّلاً" بالمعايير الدستورية، لم يكن هناك شكّ واحد في المئة أنّه يمكن أن "يسقط" بالقانون.

ويقول البعض الآخر إنّ الخسارة "مادية" بالدرجة الأولى، ومرتبطة بتصويت المغتربين، لأنّ "التيار" يشعر أنّ حصر تصويتهم بدائرة خاصة بهم، "يحصّنه" من تغيّر المزاج الشعبي، كما أنّه كان من شأنه أن يخلق بعض "التعقيدات القانونية" التي يمكن أن تقود تلقائيًا إلى تأجيل "تقني" للانتخابات، ريثما تستكمل التحضيرات اللوجستية التي تنشأ عن الوضع الجديد.

وسواء صحّت هذه "الافتراضات"، التي ينفيها "التيار"، ويؤكد أنّ كلّ ما يريده هو تطبيق قانون الانتخاب، وعدم السماح بالتعديلات التي "شوّهته"، أم لم تصحّ، فإنّ الأكيد أنّ "التيار" يتصدّر قائمة "الخاسرين" من سقوط الطعن، لأنّ الطعن طعنه في نهاية المطاف، ولأنّه لم ينجح في تحقيق الهدف المرجو منه، في السياسة أو الانتخابات أو غيرها.

لكنّ خسارة "التيار" لا تبدو "يتيمة" بالمُطلَق، بل هي تلحق بمعظم القوى السياسية، وبينهم خصوم باسيل، وحتى من أقرّوا التعديلات على قانون الانتخاب. وثمّة من يقول إن بري نفسه ولو "فرح" بضرب باسيل، إلا أنّه قد لا يكون "مرتاحًا" للنتيجة، باعتبار أنّه و"حزب الله" يفضّلان "تطيير" انتخابات المغتربين، نظرًا للمحاذير السياسية المعروفة.

ومع أنّ هناك من يلمّح إلى أنّ هذا "السيناريو" يبقى واردًا، هذه المرّة بذريعة التحضيرات اللوجستية، فإنّ هزيمة "الثنائي"، إن جاز التعبير، ترتبط أيضًا بسقوط "التسوية"، لأنّ إسقاط "الطعن" جاء كما بات معلومًا، بمثابة "فشة خلق" على ذلك، حيث كان "حزب الله" و"حركة أمل" يمنّيان النفس بأنّ "الفرصة" كانت مُتاحة لجرّ "التيار" إلى صفّهما في مواجهة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، ويبدو أنّها "ضاعت"، ولن تتكرّر على الأرجح.

لكن، بمُعزَل عن كلّ هذه التفاصيل، فإنّ "المتضرّر الأكبر" ممّا حصل يبقى من خارج هذه الدائرة، ويتمثّل في المجلس الدستوري نفسه، المؤسسة التي يفترض بها مراقبة سلامة القوانين، فإذا بها تكرّس "سوابق" تناقض "الرسالة" التي أنشئت من أجلها، وقد اعترف رئيسها القاضي طنوس مشلب صراحةً بوقوعها في "سقطة".

لكن، إذا كان القاضي مشلب حصر "السقطة" بمبدأ انفضاض الجلسة "بلا قرار"، وهو ما لا يُنتظَر من المجلس الدستوري، فإنّ هناك من يعتقد أنّ المشكلة أكبر وأعمق، وتتّصل بالتدخلات والضغوط السياسية التي ظهرت هذه المرّة بشكل فاقع وغير مسبوق، ولم يكن رئيس المجلس "موفَّقًا"، أو بالأحرى "مقنِعًا"، في نكرانها والتقليل من شأنها.

وفي هذا السياق، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام المشروعة، إذ كيف يمكن لقرار المجلس الدستوري أن يوضَع في "حلبة المقايضة" بين السياسيين، وعلى عينك يا تاجر؟ أيّ استقلالية تبقى للمجلس الدستوري طالما أنّ قراره يتغيّر، إذا ما أبرِمت التسوية، أو إذا ما سقطت؟ وأيّ "عبرة" يمكن أخذها من كلّ ما حصل؟

وأبعد من ذلك، أيّ "سوابق" سجّلها المجلس الدستوري، هو المقبل على جملة استحقاقات شديدة الحساسية؟ هل فوّض صلاحياته لرئيس مجلس النواب، بتركه مسألة "احتساب النصاب" مفتوحة وغامضة؟ ماذا لو قرّر البرلمان أن يمدّد لنفسه خلافًا للقانون؟ هل يُنتظَر أيّ دور من المجلس الدستوري في هذه الحالة؟.

وحتى لو أنّ المجلس الدستوري ينفي أيّ ربط بين قراره والتسوية، بل إنّ هناك من يضع التسوية في إطار "كلام الصحف" لا أكثر ولا أقلّ، أفلا يكفي أن "يُصنَّف" قضاة المجلس الدستوري ليتطلب ذلك "إعادة نظر" بالتركيبة كلّها؟ كيف يمكن لقضاة يفترض أن يفصلوا في القانون أن "يُحسَبوا" على هذا الطرف السياسي أو ذاك؟.

في النتيجة، قد يكون "التيار الوطني الحر" خاسرًا مباشرةً بسقوط طعنه أمام المجلس الدستوري، ما دفعه للشكوى من "تحالف رباعي" في وجهه. لكنّ الأكيد أنّ "التيار" بدأ في "توظيف" ما حصل لصالحه سياسيًا وانتخابيًا، أمر لن يكون مُتاحًا لمجلس، يخشى كثيرون أن يكون ما حصل ألحقه بسائر المؤسسات الدستورية، التي أفرِغت من مضمونها عن سابق تصوّر وتصميم؟!.