أنهى الأمين العام للأمم المتحدة ​أنطونيو غوتيريس​ زيارته ل​لبنان​ وعاد مرتاحاً، بعدما سمع التزامات ايجابية حيال النقاط والملفات التي طرحها خلال لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين الكبار.

لكن ارتياح غوتيريس يشوبه بعض الحذر بسبب التجارب السابقة، حين كان المسؤولون في لبنان ينقلبون على التعهدات التي يطلقونها. وبالتالي، فإنّ المسؤول الأممي سينتظر بعض الوقت ليرى الأفعال وعدم الاكتفاء بسماع الوعود.

ملفات عدة حملها غوتيريس معه، وحضرت خلال زيارة الايام الثلاثة الى لبنان:

1 - وضع قوات «اليونيفيل» في جنوب لبنان والشكاوى حول بعض المشكلات التي تعترض مهماتها، كمثل بقاء بعض النقاط مقفلة امام دورياتها، اضافة الى تعرّضها لعدد من الحوادث والتي تعتبرها قيادتها بأنّها مفتعلة.

لكن الحادثة التي حصلت في بلدة شقرا الجنوبية بُعيد رحيل غوتيريس وُضعت في اطار الرسالة السريعة الموجهة لأمين عام الامم المتحدة.

2 - ملف الوكالات الدولية العاملة في لبنان ومعاينة النتائج التي تحققها، وهو ما حصل في اجتماع موسّع حصل في السرايا الحكومية.

3 - ​ملف النازحين السوريين​ الموجودين في لبنان. وأظهرت عبارات الشكر التي كرّرها غوتيريس لـ»الضيافة» اللبنانية و»الكرم» اللبناني، أنّ الحلول حول هذا الملف مؤجّلة الى حين اتضاح صورة الحلول في ​سوريا​.

4 - ​الانتخابات النيابية​ اللبنانية وحتمية إجرائها، وسمع المسؤول الأممي التزاماً واضحاً من جميع المسؤولين بحصول الانتخابات اياً تكن الظروف.

5- ترسيم الحدود البحرية. لفت في هذا الإطار الى أنّ الرئيس ​نبيه بري​ هو من بادر غوتيريس وقال له: «نحن لا نزال ننتظر تحركّكم من أجل استكمال ما تمّ الاتفاق عليه وترسيم الحدود البحرية». وكان غوتيريس مسروراً بمبادرة بري.

لكن في الوقت الذي كان الامين العام للامم المتحدة يعمل على توضيب حقائبه تمهيداً لاختتام زيارته ومغادرة لبنان، تصاعدت الاشتباكات السياسية بسبب سقوط «صفقة» التسوية حول ملف تحقيقات المرفأ، فيما الخلفية الحقيقية ترتبط بالانتخابات النيابية المقبلة، من خلال سقوط الطعن الذي قدّمه «التيار الوطني الحر» عبر النائب ألان عون، الى ​المجلس الدستوري​. وبخلاف النفي الذي صدر حول عدم وجود «صفقة»، فإنّ الكواليس السياسية تضج بالتفاصيل التي واكبت حياكة بنودها. وكما اعتادت الطبقة السياسية، فإنّ الكلام الذي يُطلق فوق الطاولة مخالف كلياً لما يُحاك تحتها.

وبالعودة الى اللقاء الثلاثي الذي جمع رئيس الجمهورية مع رئيسي المجلس النيابي والحكومة عقب احتفال يوم الاستقلال، فإنّه بات معروفاً أنّه تمّ التفاهم على حل يقضي بتفعيل ​المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء​، وهو ما يؤدي الى سحب التحقيقات الجارية مع الرؤساء والوزراء من يد القاضي ​طارق البيطار​، على ان يصوّت تكتل «لبنان القوي» لمصلحة هذا الإجراء.

لكن هذا الحل عاد وأُجهض، بعدما رفض رئيس «التيار الوطني الحر» النائب ​جبران باسيل​ المشاركة في التصويت، والاكتفاء بتأمين ميثاقية الجلسة من خلال المشاركة فيها.

في المقابل، اصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على «ميثاقية» الاقتراع ايضاً، في مقابل المساعدة في قبول الطعن المقدّم امام المجلس الدستوري.

وإزاء اصرار باسيل على الاكتفاء بتأمين ميثاقية الحضور فقط، لأنّ الانتخابات على الابواب، بدت الآفاق مغلقة، فيما الرهان كان على محدودية الوقت المتبقي امام صدور قرار المجلس الدستوري. وإزاء هذا الوضع تحرك «حزب الله» بقوة، وهو المهتم اولاً بتكبيل يدي القاضي بيطار، وثانياً إيجاد مساحة تفاهم بين حليفيه حركة «امل» و»التيار الوطني الحر»، تسمح بنسج تعاون انتخابي يساعد التيار في معركته الصعبة. وقبل ايام معدودة من انتهاء المهلة الدستورية امام المجلس الدستوري ظهرت «الصفقة» التي تقضي بالآتي:

اولاً: صدور قرار من المجلس الدستوري بقبول الطعن من خلال تأمين 7 اصوات وربما 8.

ثانياً: يجتمع مجلس الوزراء في اليوم الثاني، ويُصدر ثلاث اقالات ويعمل على تعيين بدائل لها في الجلسة نفسها وهي: رئيس مجلس القضاء الاعلى، ووُضع اقتراح ان يحلّ القاضي ايلي حلو مكان القاضي سهيل عبود. والمدّعي العام التمييزي، حيث جرى اقتراح اسم قاضٍ من آل حسامي، ورئيس مجلس شورى الدولة، ووُضع اسم المدّعي العام المالي القاضي علي ابراهيم جانباً لضمان عدم معارضة بري.

ثالثاً: يتولّى المعنيون الجدد إيجاد الحل المطلوب للقاضي طارق البيطار، فوراً بعد أدائهم اليمين.

رابعاً: ان تشكّل هذه التسوية مدخلاً لإعادة ترتيب العلاقة بين بري وباسيل.

ويوم الاثنين الماضي وعند الساعة الثامنة والنصف صباحاً اتصل بري بالرئيس نجيب ميقاتي داعياً اياه للقائه في أسرع وقت ممكن، لكن ميقاتي ارجأ اللقاء الى ما بعد الظهر بسبب الارتباط مع الامين العام للامم المتحدة. وعند زيارته لبري سمع ميقاتي بنود «الصفقة» المطروحة. لكن ردة فعله جاءت سلبية ورافضة، ليقينه بأنّ نتائجها ستكون كارثية على صورته خارجياً وداخلياً، مفضّلًا تسوية المجلس الاعلى. ولذلك خرج غاضباً ومؤكّداً أنّه خارج التسوية التي يُعمَل عليها.

وادّى خروج ميقاتي الى تراجع بري، وبالتالي الى سقوط الصفقة التي تنكّر لها الجميع علناً. وعمل بري لاحقاً لإعادة احياء تسوية المجلس الاعلى في المجلس النيابي، لكن باسيل رفض مجدداً، لأنّه غير قادر على المشاركة في الاقتراع. ويوم الثلثاء سقط الطعن الذي تقدّم به «التيار الوطني الحر» امام المجلس الدستوري.

الواضح انّ باسيل الذي يفضّل دائماً اللعب على حافة المِهل الزمنية، لاعتقاده أنّ ذلك سيعطيه اكبر حدّ من المكاسب لم تنجح حساباته، وتلقّى صفعة انتخابية كبيرة ستكون نتائجها مؤلمة بلا شك. لذلك تحول المؤتمر الذي اراده لإعلان خطوات ما بعد قبول الطعن، هجوماً حاداً شمل في بعض جوانبه «حزب الله». وحدّد مهلة تنتهي في الثاني من كانون الثاني المقبل للقيام بتعويض ما.

وفي المقابل، فإنّ بري الذي يدرك حجم الصفعة التي تلقّاها باسيل، طلب من وزرائه ونوابه عدم التعليق على كلام باسيل، وعلى ما حصل في المجلس الدستوري. فرئيس المجلس النيابي يدرك انّ ما كُتب قد كُتب، وانّ الضربة قاسية، ولكنه يعرف ايضاً ان باسيل لا يستطيع الذهاب بعيداً، فهو بحاجة ماسة الى دعم الفريق الشيعي له في الانتخابات المقبلة، حيث من المفترض ان يؤمّن له اكثر من 6 مقاعد، عدا المساعدة في دوائر اخرى.

أضف الى ذلك، انّ قساوة ما حصل لا يتمحور فقط في اقتراع عشرات آلاف المغتربين في الدوائر الانتخابية الـ 15، حيث نسبة المسيحيين تتجاوز الـ 60%، ونسبة الغاضبين منهم تتجاوز الـ 80%، بل لأنّ وسائل الإعلام تضج بأخبار الصفقة وبنودها واطرافها، وبأنّ المضمون يتعلق بالمقايضة بين اصوات المغتربين والقاضي طارق البيطار. في وقت تصرّ العواصم الكبرى على انتخابات اصبحت على مرمى حجر.