إنّ عيد ميلاد الرّبّ يسوع الّذي يمرّ علينا في هذا الزّمان الرّديء في المجالات كافّة، دعوة إلى قراءة عكسيّة لزمان البهجة والفرح الّذي تحمله الأجواق الملائكيّة: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام والرّجاء الصّالح لبني البشر". لقد حثّني هذا الزّمان إلى قراءة هرمينوطيقيّة بتحديد اللّاهوتي والفيلسوف الألمانيّ فردريك شليرماخر الّذي رسمها بالدّائرة التّأويليّة، بمعنى أنّنا لا يمكن أن نعرف القراءة الصّحيحة لفقرة ما في نصّ ما، ما لم نعرف تقريبًا النّصّ بأكمله؛ ولن نعرف النّصّ بأكمله ما لم نعرف أجزاءه، ولن نفهم النّصّ ما لم نفهم حياة مؤلّفه وعمله ككلّ. فكانت دعوة لقراءة حدث الميلاد المجيد من مفهوم النّهائيّات.

لقد أثبتت الدّراسات البيبليّة الحديثة أنّ أوّل نصّ إنجيلي كُتب كان للقدّيس مرقس، بعدما كان يُعتقَد بأنّه كُتِب بحسب تسلسل الأحداث، من متّى إلى لوقا، ومرقس فيوحنا. إذًا لم يبدأ الإنجيليّ مرقس بميلاد المسيح بل من دعوة يوحنّا المعمدان إلى معموديّة التّوبة استعدادًا لاستقبال المخلّص يسوع المسيح... بيد أنّ كلًّا من متى ولوقا توقّف حول تأبيد اللّحظة الأولى لسرّ التّجسّد وتقديسها، وكيفيّة تفاعل الإنسان مع هذا الحدث الّذي يفوق قدرات العقل على استيعابه. إنّ مشهديّة زكريا واليصابات اللّذين يمثّلان عقم عائلة العهد القديم، فالكهنوت أصبح بحاجة إلى دم جديد يعيد الحياة إلى البشر، وانتظار الخلاص المرتجى، لا من خلال الشّريعة والفرائض الإلهيّة، بل من إله قلب من لحم ودم. إنّ التّأمل في لحظات البشارات السّارة لزكريا في الهيكل، ولمريم العذراء، من خلال الملاك جبرائيل، ومن ثمّ في الحلم ليوسف، وسرعة الأحداث تشير إلى الانتقال من التّلقّي إلى الفعل، في الزّيارة الّتي قامت بها مريم إلى اليصابات، ومن كلمات اليصابات "من أين لي أن تأتي إليّ أمّ ربّي"... فولادة يوحنّا المعمدان، ونشيد زكريا، ونشيد العذراء مريم، والميلاد المتجلّي في نجم ومذود ومجوس وهدايا ورعاة، ونشيد الملائكة، وتأمّل مريم، وصمت يوسف وحركته لإتمام الشّريعة بالختانة، والهروب إلى مصر، وموت أطفال بيت لحم، كلّ هذه الأحداث تبقى أحداثًا تاريخيّة، من الممكن أن تحصل، أو أنّها مرويات تزيد وتنقص مع مرور الأيّام، إنّما ليست هي الهدف بحدّ ذاته. ولا بدّ من الإشارة إلى كيفيّة معالجة يوحنّا الإنجيليّ نصّه المتأخّر عن الأناجيل الإزائيّة، فاختصر هذه المشهديّة بثماني عشرة آية فقط! فاستعمل المنطق الإغريقيّ ونقده، لرؤية نشأة الكون فلم تعد للمعجزة اليونانيّة من معنى أمام معجزة التّجسّد، اللّوغوس الجديد، بما يحمل من دلالات أي العقل والإدراك، أو الفعل والكلمة...

إنّ البشارة السّارة أو الإنجيل ليس سوى خلاص الإنسان من سلطان الموت والخطيئة، والّذي تحقّق بالفعل عندما ارتفع المسيح على الصّليب، وأسلم روحه فداءً عن الإنسان. لم تُكتب أيقونة الميلاد، ولم تُقرأ إلّا في ضوء القيامة. وهذا ما يؤكّده بولس الرّسول بقوله "إذا كان المسيح لم يقم فإيماننا باطل". نعم ! نحن لا نستطيع عيش فرحة الميلاد الرّوحيّة وتبادل الهدايا الرّمزيّة، إلّا علامة لقبولنا هديّة الفداء الإلهيّ الّذي لم نحصل عليها بأعمال برّنا بل بالنّعمة المجانيّة، بفداء من قدّم نفسه ذبيحة عنا.

تحملنا هذه القراءة التّأويليّة السّريعة إلى "الكلمة صار بشرًا وحلّ بيننا"، إلى الميلاد في ثلاثيّة ولادات؛ الأوّلى في سرّ التّجسّد نفسه كحدث تاريخيّ، والثّانية ولادة المسيح في قلب المؤمن، والثّالثة في بعدها النّهيويّ الخلاصيّ، أي بموتنا نولد من جديد في الحياة الأبديّة. في هذا المعنى الحقيقيّ للميلاد، يستطيع كلّ من قبل الخلاص بيسوع المسيح أن يحتفل ويعيش مفاعيل الفرح الرّوحيّ مهما كانت حالته، لاّن الميلاد تحقّقت مفاعيله وهدفه ومسيرته على الصّليب، ولا تتوقّف عند الموت، بل تؤول إلى القيامة.

في هذا الزّمان المقدّس، على قساوة هذه الأيّام، لا يستطيع أحد أن يكون حزينًا، أو يائسًا، أو قلقًا، أو متروكًا، بل علينا أن نسمع ما يوصينا به بولس الرّسول: "فكونوا على فكر المسيح يسوع، هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته واتّخذ صورة العبد… صار شبيهًا بالبشر... وظهر في صورة الإنسان... تواضع، أطاع حتّى الموت، الموت على الصّليب. فرفعه الله... أعطاه اسمًا فوق كلّ اسم... لتنحنيَ لاسم يسوع كلّ ركبة في السّماء وفي الأرض... ويشهد كلّ لسان أن يسوع المسيح هو الرّبّ تمجيدًا لله الآب". لم تحتفل الكنيسة الأولى بميلاد الرّبّ يسوع نسبةً إلى احتفالها المتواصل بذبيحة موت وقيامة الرّبّ.

يقول المسيح عن نفسه في حواره مع نيقوديموس في إنجيل يوحنّا، الفصل الثّالث، أي مع انطلاق رسالته العلانيّة: "يجب أن يُرفع ابن الإنسان، لينال كلّ من يؤمن به الحياة الأبديّة". هكذا أحب الله العالم حتّى وهب ابنه الأوحد، فلا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة. والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليخلّص العالم.

الميلاد هو بداية مشروع الخلاص، الّذي آتى يسوع وتجسّد من أجله. دخل العالم بالولادة ليخرج منها بالموت، ليغلب الموت بالموت، والموت على الصّليب.

مهما تفاقمت الظّروف علينا، ومهما اشتدّت المحن، فإنّ الاحتفال بالميلاد هو أن نفرح بأنّ الله معنا "عمّانوئيل" فمن علينا؟ دهشة النّهائيّات أكمل وأشمل من عجب البدايات... لذا مهما قويت كورونا وسعر صرف الدّولار المشؤوم، فلنتبادل "الكلمة"، ولد المسيح ولا بدّ للخلاص آت لا محالة... هللويا...