"أيُّها الحُبُّ. هل أنت مَن يَجِبُ أن أكونَ مَدينًا له، المَدعوَّ "أوَّلَ" في هذا العَالَم؟.

أنتَ الكُلُّ الجامِع، ومِن دُونِكَ لا يُوجَدُ أوَّل".

"أيُّها الحُبُّ. هل أنتَ أم سِواكَ مَن يَجِبُ أن أَدعوَهُ الأوَّلَ في هذا العالم؟.

أنتَ الكُلُّ الجامِع، ومِن دُونِكَ لا يُوجَدُ أوَّل".

هَذهِ الأبياتُ الشِّعريَّةُ للشَّاعِرِ الفَرنسيّ المُبتَكِر Jacques Peletier du Mans(القرن ١٦)، والّذي كان أيضًا أُستاذًا جامِعيًّا، وعالِمَ رِياضيَّاتٍ وفَيلسوفًا وطَبيبًا.

تَملَّكَهُ حُبُّ المَعرِفَةِ فناجى الكواكِبَ والنُّجومَ والسَّماءَ، وأدرَكَ، في عُمقِ ذاتِهِ أنَّ الحُبَّ خَلفَ كُلِّ ما في الكَونِ، فَدَوَّنَ خَلَجاتِ رُوحِهِ في قَصِيدَةٍ دَعاها "L'Amour des amours"، حرفيًّا حب الحب، ومجازيًّا الحبّ الأسمى.

وقد صُنِّفَ شِعرُهُ بالعِلميّ والفَلَكِيّ. وهُوَ يَدخُلُ في حَركةٍ تَصاعُدِيَّةٍ تَهدِفُ إلى رفعِ الحُبِّ الأرضيّ نَحوَ الحَقائِقِ السَّماوِيَّةِ الّتي دَعَتْ إلَيها سَابِقًا الفَلسفَةَ الأفلاطُونِيَّةَ، فَكَتبَ عن الظَّواهِرِ الفَلَكِيَّةِ ومسارِها.

عِلمًا أنَّهُ ليسَ الوَحيدَ الّذي كَتَبَ في هَذا المَجالِ، وذَلِكَ لأنَّ الإنسانَ في أعمَاقِ ذَاتِهِ يَبحَثُ عن خالِقِهِ وعمَّا هُوَ سامٍ.

Peletier وسَلَفُه الإيطاليّ Giovanni Pontano[1]، في قَصِيدَتِهِ L'Urania، بِمَعنى السَّماءِ والسَّماويّ، و Bartas[2] الفَرَنسيّ في قَصيدَتِهِ "الأُسبوعُ أو تَكوينُ العَالَم"، وغَيرُهُم، بَرَعُوا في اختِصاصاتِهم، لكِنَّ شَعروا في أعماقِهِم بأنَّ شيئًا ما لم يَكتَمِل بَعد، فَشَرَعُوا يَبحَثُونَ "صُعُودًا" ويَترَقّبُون.

هَذا أَمرٌ جَميلٌ وغَريبٌ في الوَقتِ ذَاتِه.

جَميلٌ لأنَّهم يُريدُونَ الكَمالَ ويَبحَثُونَ عنه، وغَريبٌ لأنَّهم لم يَفطَنُوا أنَّ هُناكَ أُناسًا سَبَقُوهُم في هذا التَّرقُّب، ووَجَدوا الجَوابَ الشَّافِيَ وسَجَدوا للصَّبيّ، أعني المَجوسَ العُلَماءَ والفَلَكِيّينَ الّذينَ أتَوا مِن بَعيدٍ، بإرشادِ نجمٍ مِنَ السَّماء.

هَذا تَمامًا ما تَقولُهُ طروبَاريَّةُ (تَرنِيمَةُ) عِيدِ ظُهورِ اللهِ في الجَسَدِ، الّذي هُوَ عيدُ المِيلاد، "ميلادُكَ أيُّها المَسيحُ إلهُنا، قد أَطلَعَ نُورَ المَعرِفَةِ في العَالَم، لأنَّ السَّاجِدينَ للكَواكِب، بِهِ تَعَلَّمُوا مِنَ الكَوكَبِ السُّجودَ لكَ يا شَمسَ العَدلِ، وأن يَعرِفُوا أنَّكَ مِن مَشارِقِ العُلوِّ أَتَيتَ، يا رَبُّ المَجدُ لَك."

الكَنيسَةُ مِن خِلالِ كَلِماتِ هَذِهِ الطّرُوبَارِيَّةِ، تَهدِفُ أن تَقولَ إنَّ كُلَّ ما في هَذا الكَونِ يَشهَدُ للخَالِقِ وعَظَمَتِه، وهذا ما وَرَدَ في كَلامِ كِبارِ العُلَماءِ أمثالِ أَنشتَاين وبَاسكال وغَيرِهم، حتَّى وإن لم يأتوا على ذِكرِ اسمِ يَسوعَ تَحدِيدًا.

ونَحنُ في إيمانِنا المَسيحِيّ نَقولُ إنَّ هَذا الخَالِقَ إلهٌ شَخصِيٌّ وقد ظَهَرَ على الأرضِ، وصَارَ إنسانًا مِن دُونِ أن يَفقِدَ شيئًا مِن أُلُوهِيَّتِه، وتَكَلَّمَ مَعَنا وَجهًا لِوَجه، واسمُهُ يَسوعُ بِالعِبرِيَّةِ، يَعني الكائِنَ الّذي يُخَلِّص.

بِالعَودَةِ إلى Peletier، نَقُولُ لَه: صَدَقْتَ ولم تُخطِئْ إطلاقًا بِعَنوَنَةِ قَصيدَتِك "أفضَلُ حبٍّ" إذ ما مِن كمَالٍ أو حُبٍّ أو عِلمٍ أو فَنٍّ أعظمَ مِن كمالِ وحُبِّ وعِلمِ وفَنِّ ذاكَ الصَّبيِّ الّذي أضاعَه مريمُ ويُوسُفُ، ووجَدَاهُ في الهَيكَلِ جَالِسًا بَينَ العُلَماءِ يَشرَحُ لَهُمُ الكُتُبَ، وهُم مَدهُوشُونَ لِكلامِه، ويَتَساءلُونَ عن مَصدَرِ مَعرِفَتِهِ، ولَم يُعلِّمْهُ أَحَدٌ. وهُو طَبعًا يَسوع.

إنَّ التَّكامُلَ بينَ العِلمِ والعَقلِ والإيمَانِ رائع، ومَن يبحَثُ في العُمقِ يَجدُ هذا التَّكامُلَ والانسِجامَ الكُلّي، بِخاصَّةٍ أنَّ الإنسانَ، في الأساسِ، ليسَ غَريبًا عَنِ الخَالِقِ الّذي نَفَخَ فيهِ نَسمَةَ حياةٍ، وطَلَبَ منه أن يَسُوسَ الأرضَ بِحِكمَةِ اللهِ وتَدبيرِهِ وسَلامِهِ وحُسنِ التَّصرُّفِ لِتَحقِيقِ ما نُنشِدُهُ في صَلاةِ الأبَانا "لِتَكن مَشيئَتُكَ كما فِي السَّماءِ كَذَلِكَ على الأَرض".

وإذا سألنا ما هِيَ مَشيئَةُ اللهِ، يأتينا الجَوابُ في الطِّلبَتَين الأُولَيَين مِن هَذهِ الصَّلاة، أي، لِيَتقدَّس اسمُكَ ولِيَأتِ مَلكوتُك. وهُنا يَجبُ الانتِبَاهُ على أنَّنا مَدعُوّون لِتَقدِيسِ اسمِ اللهِ في حَياتِنا، وتَحقِيقِ مَلَكُوتِهِ في كُلِّ أَعمالِنا ومَا يُحيطُ بِنا.

وهَذا يَعني بِالمُختَصَرِ، أن نَطبَعَ الأرضَ بِبَصمَةِ الله. ولكن، هَل هَذا ما يَحصُلُ فعلاً؟ أم نَحنُ في عَصرِ الفوضَى الشَّامِلَةِ نَتيجَةَ سُلوكِ الإنسانِ وتَصرُّفاتِه؟

فَلنستَرجِعْ ما كَتَبَهُ عالِمُ الطَّبيعَةِ والرّياضِيّاتِ Buffon[3] (القرن ١٨) في كِتابِهِ "عُهُودُ الأرض": "وَجهُ الأرضِ بِالكامِلِ اليَومَ يَحمِلُ بَصمَةَ الإنسَانِ وهَيمنَتَه". ولِلأسَفِ الشَّديد، تَمَّ الإقرارُ، في القَرنِ الحَادِي والعِشرين، رَسمِيًّا بِهَذِهِ الهَيمَنَةِ، وذَلِكَ بأن دَخَلَ عالَمُنا الأرضِيّ عَصرًا جَدِيدًا «Anthropocène» أي عَصرَ "الإنسانِيَّةِ الجَديدَة" بالمَعنى السَلبيّ للكَلِمة، بِحَيثُ أَصبَحَ الإنسانُ شَريكًا أساسِيًّا في فَسادِ الأرضِ ومَوارِدِها المُتنَوِّعَة، وبِالتَّالي هِيَ "نَهضَةٌ مُتَوَحِّشَة[4]".

هل هذا ما يَتوقَّعُهُ اللهُ والعَالَمُ مِنّا؟ بِالطَّبعِ لا.

لقد أَتى يَسوعُ لِيَجعلَ كُلَّ شَيءٍ جَدِيدًا، وهُوَ يَطلُبُ مِنّا أن نَكونَ مُشارِكِينَ لِميلادِهِ على الأرضِ Coparticipation مِن ناحيةِ مفاعيلِ هذه الولادة، بَدءًا مِن ذَواتِنا وُصُولًا إلى المَسكُونَةِ جَمعاء، في مُختَلَفِ المَيادينِ وعلى جَميعِ الأَصعِدَةِ. فهلَّا تَجَدَّدْنا بِهِ لِنُجَدِّدَ كُلَّ شَيءٍ مِن حَولِنا؟.

إلى الرب نطلب.

ميلاد مجيد.

[1] (1426-1503)

[2] Guillaume du Bartas (1544-1590) - La Sepmaine en Français La Semaine ou Création du

monde.

[3] Les époques de la nature. Georges-Louis Leclerc, comte de Buffon (1707-16/1788) est un naturaliste, mathématicien, biologiste, cosmologiste, philosophe et écrivain français.

[4] Renaissance sauvage. Guillaume Logé.