في لبنان، ومهما كان أيّ حدث كبيرًا ومهما كانت أيّ أزمة خطيرة، سُرعان ما يتمّ تخطّي التداعيات بسبب تسارع الأحداث وبروز أزمات جديدة لا تقلّ أهميّة! هذا ما حدث مرارًا في الماضي، وهذا ما كان من المُتوقّع له أن يحدث بالنسبة إلى أحداث الطيّونة الأمنيّة، على الرغم من أهمّيتها ومن خطورتها على الإستقرار الداخلي ككلّ. لكنّ إصرار الجهات التي تدور في فلك "حزب الله" على رفع دعاوى قضائيّة ضُدّ حزب "القوات اللبنانيّة"، وضُدّ رئيس الحزب شخصيًا، وردّ الجهات التي تدور في فلك "القوات اللبنانيّة" برفع دعاوى قضائيّة ضُدّ "حزب الله" وضُدّ أمينه العام أيضًا، سيُبقي قضيّة "أحداث الطيّونة" محلّ مُتابعة لبعض الوقت. فما هي الأهداف والخلفيّات الفعليّة لهذه الدعاوى، وإلى أين يُمكن أن تصل؟.

بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّه منذ وُقوع "أحداث الطيّونة"، إرتفع مَنسوب التوتّر السياسي والإعلامي المُباشر والمُتبادل بين "حزب الله" و"القوات اللبنانيّة"، وبلغ ذروته مع إستدعاء مُفوّض الحُكومة لدى المحكمة العسكريّة، القاضي فادي عقيقي، رئيس حزب "القوات" سمير جعجع إلى التحقيق، وذلك بعد إنتهاء التحقيقات الأوّليّة التي أجرتها مديريّة المُخابرات. لكنّ جعجع رفض حصر الإستدعاء إلى التحقيق به وحده، وتخلّف عن الحُضور، بالتزامن مع قيام 14 شخصًا من أهالي منطقة "عين الرمّانة"، والذين تضرّروا مُباشرة خلال الأحداث، بالتقدّم بشكوى إلى النيابة العامة ضُدّ أمين عام "حزب الله" السيّد حسن نصر الله، في مُقابل دعوى مُقابلة من جانب بلديّة الغبيري ضُدّ "القوات" وجعجع.

وبعد أنّ ظنّ الجميع أنّ الأمور ستنتهي عند حدّ حفظ هذه الشكاوى، أي عن طريق "لفلفة" القضيّة وفق الأسلوب اللبناني المَعهود، تقدّمت مجموعة من "أهالي الشيّاح" منذ بضعة أيّام بشكوى جديدة مُباشرة أمام النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان، القاضية غادة عون، ضُدّ حزب "القوات" ورئيسه. وقامت القاضية عون بإستلام الشكوى وحوّلتها على الأجهزة المُختصّة لإجراء التحقيقات اللازمة. ومن جديد، جاء ردّ مجموعة من "أهالي عين الرمّانة" أمس، عبر شكوى جزائيّة جديدة ضُدّ أمين عام "حزب الله"، لكن هذه المرّة أمام القاضية عون، مُطالبين بإحالة هذه الشكوى أيضًا على الأجهزة المُختصّة، حتى "لا يكون هناك صيف وشتاء تحت سقف أحد".

إشارة إلى أنّ "حزب الله" الذي كان أكّد لأهالي الأشخاص الذين قُتلوا في أحداث الطيّونة ذهابه إلى النهاية في هذه القضيّة، والذي كان بعث أيضًا برسائل مُبطّنة بأنّه ما لم يُحلّ هذا الملف بالطرق القانونيّة فإنّ "الأهالي" قد يأخذون حقّهم بيدهم، يتعمّد إستمرار الهجوم السياسي والإعلامي على "القوات"، لأهداف مُرتبطة بشدّ العصب الشعبي في بيئته، عشيّة الإنتخابات. وليس بسرّ أنّ خوض المعركة الإنتخابيّة في ظلّ الضائقة المعيشيّة والحياتيّة الخانقة التي يعيشها اللبنانيّون من مخُتلف الطوائف والبيئات، يَستوجب الهروب من الوعود الإجتماعيّة التي لم يتحقّق منها شيء، إلى شعارات سياسيّة برّاقة، تحثّ الناخبين على ضرورة التصويت لصالح "الحزب"، وذلك بهدف مُواجهة "الحصار الأميركي-الخليجي"، وإسقاط "مُحاولات فرض التطبيع مع إسرائيل"، ومنع "خُصوم وأعداء الداخل" من إضعاف "الحزب"، إلخ. وبالتالي، من اليوم، وحتى ما بعد الإستحقاقين الإنتخابيّين المُقبلين، أي الإنتخابات النيابيّة والإنتخابات الرئاسيّة، سيُواصل "حزب الله" إنتقاداته المُباشرة وبالإسم، لحزب "القوات" ولرئيسه، بعد فقدان شعارات مُواجهة "قوى 14 آذار" لمضمونها، وبسبب إستمرار "الحزب" في تحييد "تيّار المُستقبل" وكل أحزاب وتيّارات وشخصيّات البيئة السنيّة من تهجّماته المُباشرة، خشية تأجيج الإنقسام المذهبي الداخلي.

في المُقابل، إنّ مصلحة حزب "القوات" تقضي أيضًا بمُنازلة "الحزب" سياسيًا وإعلاميًا، لمصالح إنتخابيّة، وليس فقط بسبب الإختلاف العقائدي العميق بين الطرفين. ومن أهداف "القوات" الإضاءة على إتهاماتها ضُدّ "حزب الله"، لجهة التسبّب في عزل لبنان عن مُحيطه العربي وعن العالم الغربي، وفي أخذ لبنان إلى محاور قتالية إقليميّة بقيادة إيران، بشكل لا يُراعي مصالح اللبنانيّين، لا في الداخل ولا في دول الإنتشار، وخاصة في دول الخليج العربي. وبالنسبة إلى الشكوى الجديدة، بحق أمين عام "حزب الله"، فالهدف منها إبطال الشكوى المُماثلة في حقّ رئيس "القوات"، لجهة أن يتم تجاهل هاتين الدعويين من قبل القضاء، والإلتفاف عليهما وتمييعهما. وفي حال لم يحصل ذلك، وجرى السير بالدعوى ضُد "القوات" ورئيسها، من دون المُضيّ بالدعوى ضُدّ "الحزب" وأمينه العام أيضًا، ستعمل "القوات" على إستغلال هذا الأمر، لإظهار "الإستهداف السياسي" الذي تتعرّض له، وللإضاءة على "الإستنسابيّة واللاعدالة القضائيّة" التي يتمّ التعامل بهما معها، ولتبيان قُدرة "حزب الله" دون سواه على "تجاوز القوانين وضرب المؤسّسات وهيبة القضاء"، وهو ما سيصبّ في نهاية المطاف في صالح حملات "القوّات" الإنتخابيّة المُرتقبة.

في الخُلاصة، إنّ إحدى أبرز مشاكل لبنان منذ القدم حتى اليوم، تتمثّل في غياب العدالة، وفي عدم تطبيق القانون على الجميع. وكم من الجرائم التي حصلت في العقدين الأخيرين بالتحديد-من جرائم الهدر والسرقة والسمسرات وُصولاً إلى جرائم الإغتيال السياسي، بقيت من دون مُتابعة، ولم يُعرف لا المُذنب ولا الجاني ولا المُجرم الحقيقي! واليوم، لا يبدو أنّ الحقيقة الكاملة والمُجرّدة ستظهر لا في ملفّ إنفجار الرابع من آب 2020، ولا في ملفّ أحداث 14 تشرين الأوّل الماضي 2021، ولا في أيّ ملفّات أو جرائم أخرى!.