في ظلّ التعطيل الحاصل لعجلة الدولة ككلّ، تتزايد الأصوات التي تعتبر أنّ دُستور الطائف قد إنتهى ومات، وأنّه من الضروري التوجّه إلى مؤتمر تأسيسي جديد، يُعيد تركيب صيغة تقاسم السُلطة في لبنان، وفق معايير حديثة تُعالج الثغرات السابقة، وتُعطي كلّ طائفة حقّها. فهل هذا مُمكن؟.

بحسب الداعين إلى تغيير النظام، إنّ أيّ صيغة حُكم يُمكن التوصّل إليها ستكون أفضل من الصيغة الحالية التي أظهرت العُقود الأربعة الأخيرة مدى هشاشتها، وخاصة مدى الثغرات التي تحتويها والتي تسمح لأيّ فريق طائفي أو سياسي وازن، وحتى غير وازن في بعض الحالات، بتعطيل السُلطة وبوقف دوران عجلة الدولة ككلّ!. وليس بسرّ أنّ "التيّار الوطني الحُرّ" الذي لم يكن يومًا راضيًا عن "إتفاق الطائف"، نظرًا إلى التنازلات الكبيرة التي لحقت بحُقوق المسيحيّين فيه، هو اليوم من المُؤيّدين الرئيسيّين لتطوير النظام. وقد زادت قناعة "التيّار" بضرورة القيام بهكذا خُطوة، بعد سلسلة من موجات التعطيل التي لحقت بعهد الرئيس العماد ميشال عون، كلّ مرّة تحت عنوان مُختلف. وبالنسبة إلى المؤيّدين لتطوير النظام اللبناني ككلّ، وليس حصرًا "التيّار"، إنّ الصيغة اللبنانيّة المبنيّة على الطائفيّة والمذهبيّة الضيّقة تحول دون عمل مؤسّسة الدولة كما يجب، بفعل الحمايات الطائفيّة التي تحمي الفاسدين والمرتكبين والمُخالفين للقوانين، وإنّ مُطلق أيّ حوار بين الجماعات اللبنانيّة المُختلفة قادر على التوصّل في نهاية المطاف إلى أسس لدولة علمانيّة مُتقدّمة.

في المُقابل، إنّ الرافضين لأي مُؤتمر حواري جديد، وكذلك الرافضين للمسّ بإتفاق الطائف، ينطلقون من مُعطيات مُناقضة تمامًا، حيث يعتبرون أنّ فتح هذا الباب من جديد، سيُؤدّي إلى دُخول الجماعات اللبنانيّة السياسيّة والطائفيّة في صراعات إضافيّة لا تنتهي على الحُكم والسُلطة، لأنّنا لا نزال بعيدين تمامًا عن مفهوم المُواطنيّة، وعن مفهوم الدولة. وبحسب هؤلاء، إنّ فتح باب التعديل لأي بند من بُنود الدُستور، بحجّة معالجة الثغرات الواردة في هذا الأخير، سيفتح الباب على مصراعيه على مُطالبات بالجملة لتعديل أغلبيّة البُنود، ومن ثمّ لنسف الدُستور من أساسه. أكثر من ذلك، بحسب هؤلاء، إنّ الدساتير لا تأتي من العدم، بل هي تُصاغ وفق موازين قوى داخليّة وخارجيّة، ووفق توازنات دقيقة تأخذ في الإعتبار النسب العدديّة والفاعليّة السياسيّة وغيرها من المُعطيات. وبالتالي، يرى أصحاب هذه النظريّة إنّ المسيحيّين الذين خسروا في دُستور الطائف جزءًا مهمًّا من سُلطاتهم وصلاحيّاتهم، سيتعرّضون لخسائر إضافيّة في حال أصرّوا على إدخال تعديلات على الدُستور، بحجّة إستعادة ما سُلب منهم في الطائف، وذلك للأسباب التالية:

أوّلاً: إنّ الديمغرافيا اللبنانيّة تغيّرت بشكل كبير مُقارنة بما كانت عليه قبل أربعة عُقود، أي عند إقرار "إتفاق الطائف"، حيث تناقص المسيحيّون عدديًا أكثر فأكثر مُقارنة بنظرائهم من باقي الطائف، وصار عددهم يُقارب ثلث الشعب اللبناني فقط، وهذا ما سينعكس عليهم سلبًا عند المُطالبة بحُكم البلد مُناصفة.

ثانيًا: إنّ الإمكانات التي تتمتّع بها بعض الطوائف، مثل الطائفة الشيعيّة على سبيل المثال لا الحصر، على مُستوى الدعم الخارجي المَفتوح من إيران، وعلى مُستوى إمتلاك السلاح والمال والقُوّة الشعبيّة، يجعلها في موقع أقرب إلى فرض الشروط، منه إلى مُناقشة الحصص بعدل وبمُساواة.

ثالثًا: إنّ الإنقسام السائد حاليًا في الساحة المسيحيّة هو غير مَسبوق، حيث أنّ كل فريق سياسي يُغنّي على ليلاه – إذا جاز التعبير، إضافة إلى أنّ فئات واسعة من الناس باتت ناقمة على الجميع من دون إستثناء، ما يعني أنّ المُشاركة في أيّ مؤتمر تأسيسي ستُترجم بمُطالبات غير مُوحّدة وحتى مُتضاربة ومُتناقضة، الأمر الذي سيُضعف القُدرة على التفاوض بشكل خطير.

رابعًا: إنّ بعض الجماعات اللبنانيّة، على غرار الطائفة السنيّة مثلاً، ترفض رفضًا قاطعًا التنازل عن المكاسب التي بحوزتها حاليًا، والطائفة الشيعيّة تعتبر أنّ حُصصها هي أقلّ حاليًا ممّا تُمثّل من ثقل على الأرض. حتى أنّ الطائفة الدُرزيّة القليلة العدد، تعتبر أنّ ما نالته في "إتفاق الطائف" غير مُنصف بحقّها، وتُطالب بمزيد من المكاسب. وبالتالي، إنّ أيّ مُطالبة مسيحيّة بإستعادة بعض الحُقوق، سُتواجه بسلسلة من المطالب المُقابلة التي لا تنتهي.

خامسًا: إنّ الفكر اللبناني، على الصعيد الشعبي العام، وعلى صعيد الأحزاب والقوى السياسيّة، وكذلك على صعيد المؤسّسات الدينيّة المُختلفة، وحتى على صعيد الكثير من الجماعات الأهليّة، لم يصل بعد إلى مُستوى النُضج السياسي والفكري للعمل على تطوير النظام في لبنان ليكون علمانيًا، بشكل يحفظ حُقوق الجميع، ويجعل اللبنانيّين مُواطنين مُتساوين أمام المناصب، الأمر الذي يزيد من صُعوبة إحداث أيّ تغيير غير طائفي في هذا المجال، وسيُعطي الأولويّة تلقائيًا للأكثر عددًا.

في الختام، وبغضّ النظر عن صوابيّة هذه النظريّة أو تلك، لا شكّ أنّ مُحاولة تحريك الجُمود القاتل الحالي، عبر فتح باب التفاوض من جديد بين الجماعات اللبنانيّة، من شأنه أن يُضيف المزيد من الإحتقان والتوتر بسبب عمليّات شدّ الحبال وعضّ الأصابع التي ستحصل. وكل جماعة ستذهب إلى التفاوض مُنقسمة على نفسها، ستخسر الكثير من حُقوقها، وبالتالي، إنّ إحتمال خسارة المسيحيّين المزيد من سُلطاتهم ومن صلاحيّاتهم، وارد بنسبة أكبر من إحتمال تغيير ما فرض عليهم من بُنود في "إتفاق الطائف".