لبنان​ُ كلمةٌ بِلُغاتٍ مُتعدِّدة.

بِها كانَ نسيجَ الإخاء البشريِّ الذي عَقلَنَه، واجِباً ومُبرِّرا وغايةً: قوامُه ثُنائيَّة المادَّة والروح، وكِيانُه: ثنائيَّة الواقعيَّة والإيمانيَّة. بذلك يكونُ لبنان كلمةً متجَسِّدة.

سرُّ التجسيد

كثيرةٌ الإستطرادات اللالبنانيَّة التي أغوَت لبنان أو إشتَهَته أو طَمِعَت به، مُقصيَةً غيرها، ومُبعِدَةً إيَّاه عن حقيقته. لكنَّ سرَّ لبنان يكمن في التجسيد، أيّ في تلك القُدرة الإبداعيَّة التي فيه، والقادِرَة على تَكريس الإنسانيّة أبعاداً، وأنماطاً ومثاليَّةً.

كيف لا يكونُ له ذلك، وهو مَصقولٌ عنوةً في مُتناقضاتِ المُستَلهَمات التعبيريِّة، وقد إبتَدَع أكثرَها، وإستَنبَطَ مباشرةً او غير مباشرةٍ ما تبقّى منها؟ وَكَم مِن مرَّة صَقَل ثنائيَّة القول والفِعل، لا في حنينٍ إلى ماضٍ عَبَر بل أمَانةً لِحُضورٍ فِعلُهُ التفاعل.

ولن أطيل.

أليسَ أبناؤُهُ يَقرأون بِلُغَةِ داوود الملك مزاميرَه، وجُلُّها إستَطاب بِها من فَيضِ تُراثِهِم؟ أليسَ إبناؤُهُ يَتلون كلماتِ تَقديسِهم فِعلَ أبَدٍ من عِبارَاتِ الذي كانَ قبل إنشاءِ العالَمِ وبِلُغَتِه الآراميَّة؟ أليسَ أبناؤُهُ من يَقرأ لُغَة سقراط ومُدوِّنات أرسطو التي وَرِثَتها بيزنطية فأفاضَت فيها شهادتها للوغوس، الإله المُتأنِّس؟ أليسَ أبناؤُهُ يسجدونَ صوب القِبلَة ويُعلون آذانَهُم بِلُغَة النبي؟ أليسَ أبناؤُهُ من أعطى قارَّة المَغيبِ إسمَ إحدى أميرَاتِهم، وقد علًموا ابناءَها الحَرف ومَعَه الكلمةُ فَكان بِهِم إبتداعُ الزمنِ وما فيه من تثاقُفِ حضاراتٍ، وتَفَنُّنِ لُغاتٍ، وإنسِكاب حِقَبٍ؟.

هو هو ذاكَ السِرَّ: التجسيد! وقد بات سِرَّ أسرارِ أنسَنَةِ الإنسانِ في أيِّ زَمانٍ ومَكانٍ. بِهِ يَسكُبُ لبنان ذهنيَّات مُتباينة تَشهدُ لِذَاتها، تارةً لِبعضِها البعض، وطوراً ضدَّ بعضِها البعض، بِتُرَاثَاتٍ ليس إعتدَادُها أنَّها رَواسب بل أفعَال وجودٍ. وأكادُ أقول من دونِ تردُّد: قضايا الوجود.

واليوم، كما في أيِّ يوم، لا يُمكن للبنانَ أن يكونَ نقيضَ سِرُّه في العالم، مُمَزَّقاً مِمَّن يريدون إلغاء هذا السِرِّ او القضاء عليه. هي تلك قضِيَّتُه الكبرى: هو الموزِّع نفسَهُ حُضوراً طليعيَّاً، يُرَاد له الإقتناعَ بأنَّه مُمَزَّقٌ بين حَدَّي الرفضِ أو القطيعةِ، والرُضوخِ لهما.

لا! لبنان هذا بِغَرَابَتِهِ، ليسَ وَريثَ الرَفضِ بين شرقٍ يَطوي الحريَّة وغَربٍ يَلوذُ بِها. ولا هو مَنبوتاً بين شرقٍ يَتَحَصّن بِقيودِ النواميسِ وغَربٍ يَتَفلَّتُ من ضَوابط الشرائع. بل ذاكَ الجِذع الأساسَ الذي مِنه يَطلِع العتيقُ جديداً ويَعلو الجديدُ إنبِثاقاً. لا هو محصورٌ بأحكَامٍ مُسبَقة ولا مُقيَّداً بِتأويلاتٍ مُلحَقَة. لا مُوَالياً لِغُربَةٍ ولا مُعتَزِلاً في قوميَّة. شُرعَتُهُ العدلُ وقد أرسَاهُ مساواةً بين البَشَر مُنذ مدرسة الحقوق البيروتيَّة، فجرَ زمنِ التاريخ، وهوِّيتهُ الحريَّة وقد وَاكَبَها من القُدسيَّة الإلهيَّة إلى الشَخصانيَّة الإنسَانيَّة.

مٌتقَدِّمٌ هو؟ قُل أكثر: هو دعوةٌ لِمُعطَيات الإخَاء لا بعثٌ من مُستَنزَلات الغَيب. ولأجلِها تتِّم الثورةُ ضِدَّهُ بالتكافُلِ والتضامًن بين هذا الشرقِ خَانِعٍ يَتَسلَّط بالغيبيَّاتِ وذاك الغربِ الخَنوعِ الذي َيستَلِّذ بِجَنى الكوابيس، بين شرقِ اللا ثَمَر وغربِ القنوط، بين شرقِ عِشقِ إلتِبَاسَاتِ الإنحطاطِ وغرب مُدَاهَماتِ الإلتِبَاسات، بإسم المَصَالحَ المُشترَكة. وَهُما، مَعاً، بالظلاميّات غارِقان: هذا بالرَدَّةِ إلى التيوقراطيَّة جِهَاداً مُبطِلاً للحَضَارة، وذاكَ بالرَدَّةِ إلى مُفارَقات ما قبلَ تأنُّس إبن الله جِهَاداً مُفَّتِتاً للمَفاهيم.

هو الباطل يواجهه لبنان-الكلمة المُتَجَسِّدة.

أنتَ إبنَه مِن مَجدِهِ، كُن كَلِمَتَهُ! تكونُ ثورةَ إنتصارِهِ!.