اللهُ الفنّانُ الأوَّلُ والأمهر، وقد خَلقَ الإنسانَ على صُورتِه، وتَحديدًا على صُورةِ الأُقنومِ الثَّاني الّذي تَجسَّد، أي على صُورةِ الرَّب يسوعَ المَسيحِ الذي صارَ إنسانًا وبَقِي إلهًا.

مِن هنا نرى في أيقُونَةِ خَلقِ الإنسانِ الأوَّل، وجهَ آدَمَ الّذي هُو وجهُ يَسوعَ نَفسُه.

إذًا خُلِقنا جَميلِينَ وعِندنا بَهاءٌ إلهيٌّ، ولكن للأسف، نحن نُشوِّهُ صُورتَنا من خِلالِ إصرارِنا على عَملِ السُّوءِ وعَدَمِ التَّوبَة.

هذا الجمالُ، الذي نراهُ في أُولى آياتِ الكِتابِ المُقدَّس، مَذكورٌ في كُل يومٍ مِن الأيَّامِ الستّةِ للخَلْق، ويتمُّ التّأكيدُ عليه في اليومِ السَّابِع: "وَرَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا"(تكوين ١).

مهلًا، هل "حَسَنٌ" تَعني جَمالًا؟ الجوابُ نعم، وأكثَرُ مِن جَمَال. لقد وَردَتِ الكلمَةُ في الكِتابِ المُقدَّسِ بِعَهدَيهِ القَديمِ والجَديد، في معانيَ مُختَلِفَةٍ: "خيرٌ، وصالِحٌ، وجَيّدٌ، وحَسَنٌ، وجَميل"[1]. ومَعاني هذِهِ الصِّفاتِ أبعدُ منَ المَفهومِ البَشريّ، لأنَّها تتعلَّقُ بِالله. فمثلًا، عندما نقولُ جَمالًا، لا نَعني طبعًا الجَمالَ البَشرِيَّ المَحدُودَ "Charnel/Humain".

فَلنتَوقَّفْ عِندَ هَذهِ الآية: "وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"(تكوين ٩:٢).

هي آيةٌ مُهمَّةٌ جدًّا ومِحوَرِيَّةٌ، إذ هي تُظهِرُ بِوضوحٍ ارتِباطَ الحُسنِ والجَمالِ وكُلِّ الصِّفاتِ المُرادِفَةِ، بِالمَعرِفَةِ الّتي تَجعلُنا نَبتَعِدُ عنِ الشَّر الّذي هو الظُّلمَةُ والبَهيمِيَّةُ والقَباحَة. والمَعرِفَةُ هُنا، لَيسَتِ المَعرِفَةَ العِلميَّةَ أو الثَّقافِيَّة، بل ما قَالَهُ الرَّبُّ: "وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ." (يوحنا ٣:١٧). فهذِهِ المَعرِفَةُ تُكسِبُ الإنسانَ السَّلامَ الدَّاخِليَّ، وتَجعلُ منهُ إنسانًا حُرًّا بِكُلِّ ما للكَلِمَةِ من معنًى، ويُصبِحُ سائرًا نحو الاتِّحادِ بِالكامِل.

كذلكَ مَعرِفَةُ الخَيرِ، في المَفهُومِ المَسيحيّ واللّاهُوتيّ، هيَ استِعادَةُ الصُّورةِ الّتي خُلِقَ عَلَيها الإنسانُ قبلَ السُّقُوط، واللقَاءُ وَجهًا لِوَجهٍ بِالله. والتَّوقُ لِتَحقيقِ هذا اللِّقاءِ، بَحثٌ وُجوديٌّ في عُمقِ الإنسانِ عن السَّلامِ الفِردَوسيّ، وعَنِ الكَمالِ والجَمالِ، الَّذي هُوَ اللهُ وحدُه، أأَدرَكَ الإنسانُ ذلكَ أم لم يُدرِك.

وهنا، يَحلُو الاستِطرادُ من خلالِ مُراقَبَةِ أعمالِ الفَنّانِينَ الكبارِ، فَالفَنُّ الرَّاقي تَرجَمةٌ لأفكَارٍ وأَحاسِيسَ ومَشاعِرَ وخَلجَاتٍ تَدورُ في نَفسِ الفَنّانِ وكِيانِه، فيَستَجمِعُ مَوهِبَتَه الّتي نالَها مِنَ الله، ويُتَرجِمُها رَسمًا وألوانًا وخُطُوطًا ونَحتًا وألحانًا وصُوَرًا وكلِماتٍ ورقصًا وغيرَها، ويصُبُّ كلَّ ما لَدَيهِ مِن مَعرِفَةٍ وتِقَنيّةٍ ومَوهِبَةٍ لِتَجسيدِ مُبتغاهُ وتَرجَمَتِهِ مَلمُوسًا.

فمَن يَقرَأُ في العُمقِ لَوحاتِ كِبارِ الرَّسّامِينَ مَثَلًا، يَجِدُ أنَّهم حاوَلُوا بِقُوَّةٍ تَجسيدَ الجَمالِ الأسمى، والوُصولَ إلى الكَمالِ والحُسنِ، لَكِنَّهم، بِالمُقابِلِ، إعتَرفوا اعتِرافًا صادِقًا بوُجودِ جَمالٍ أبعدَ بِأشواطٍ مِن كُلِّ مُحاولاتِهم القَيّمَةِ، وبِالتّالي لم يَستطيعُوا بُلُوغَه. وقد أتى اعتِرافُهم هَذا تَرجَمَةً لِعَطشٍ دَاخِليٍّ عِندَهُم للجَمالِ الإلَهيّ.

هذا العَطَشُ الدّاخِليّ مُلِحٌّ ومُتَطَلّبٌ Exigeant، لأنَّ الإنسانَ يَبحثُ عن اكتِمالِ صُورتِهِ مع الفنّانِ الأوَّلِ والمُبدِعِ الأعظمِ الّذي جَبَلَهُ ونَفَخَ فيهِ نَسمَةَ حَياة.

وهنا تَأتِي الهُدوئِيَّةُ Hesychasme، مِيزَةُ اللّاهوتِ الشَّرقيّ، لِتُعطيَ كَلِمَةَ الفَصل، بِحَيثُ تَقومُ على جِهادِ الإنسانِ للاتِّحادِ بِاللهِ مِن خلالِ استِنارَةِ الذِّهنِ Intellect، وجعلِ العقلِ والقَلبِ وكُلِّ الأحاسيسِ والمَشاعِرِ والرَّغباتِ تَسيرُ في اتِّجاهٍ واحِدٍ ألا وهُوَ العُلى، وذلِكَ بعدَ تَنقِيَتِهم جَميعًا بِالنُّورِ الإلَهيّ الذي يَجعلُنا نَستنِيرُ ونَكتَسِبُ الفَرحَ الأسمى.

وكُلَّما تَقدَّمَ الإنسانُ رُوحِيًّا تَضاعَفَ شُعورُهُ بالاستِزادَة، وهَذا أَمرٌ لا يَنتَهي إطلاقًا، لا بل يَترَافَقُ مَعَ حلاوَةٍ لا تُوصَفُ، لأنَّ طَعمَ الرَّبِّ طَيّبٌ ولَذِيذ. وهذا الأمرُ لا يُمكِنُ أن يَتِمَّ مِن دُونِ مُؤازَرَةٍ Synergie كامِلَةٍ مِنَ الله.

مِن هنا يُحكى عَمّا يُسمَّى Le désespoir des artistes، وهو شُعورُ الفَنّانينَ بِالخَيبَةِ أَمامَ أعمالِهِمِ الباهِرَة، إذ يَشعرُونَ بِوجُودِ ما هوَ أعظَمُ وعليهِم بلوغُه، وهم قد "عَصَرُوا" ذواتِهم بِالكامِلِ واستَنفَدوها، وكثيرٌ منهم عاشَ النَّشوَةَ Euphorie، وهي حالَةٌ ذِهنِيَّةٌ وعاطِفِيّة، تُقدِّمُ حالَةً مِنَ البَهجَةِ والإثارةِ، وتترافَقَ مَعَ نَشوةِ النَّصر وتَحقيقِ أمرٍ ما، وبالرُّغم من ذلكَ كُلِّه، لم يَستَطِيعوا تَحقيقَ مُرادِهم، فبكَوا بُكاءً امتَزَجَ بِالفرحِ والخَيبَةِ معًا.

وهذا ما جَعَلَ رَسّامِينَ كِبارًا في عَصرِ النَّهضَةِ مَثلًا، أمثال Michel-Ange و Leonardo da Vinci وAlbrecht Dürer وTitien وغيرهم، أن يَترُكُوا في أعمالِهِم الكبيرَةِ أجزاءً غيرَ مُنتَهِيةٍ Imperfetta أو non-finito، إقرارًا منهم بِوُجُودِ حركَةٍ دائِمةٍ لا تَتَوقَّفُ، وقُوّةٍ عظيمَةٍ لا تَنتَهي. فكيفَ لِتُحَفِهم إذًا أن يَتوقَّفَ العملُ بها؟ مُستحيل. فهم لم يصلُوا إلى الكَمالِ المَرجُوِّ بَعد.

وهذا تَعبيرٌ عن تَوقِهِمِ الحارِّ للوُلوجِ إلى المَعرِفَةِ الكامِلَةِ، ولِتَحقيقِ الكَمالِ والجَمالِ الأسمى، ولِتَرجَمَةِ إحساسِهم الدَّاخِليّ بِوُجودِ سِرٍّ كبيرٍ لم يكتَشِفُوهُ بعدُ، وهو أَقوى مِنهُم، ونفوسُهم مَشدودَةٌ إليه.

فالعالِمُ والفَنّانُ الإيطاليُّ الكبيرُ Leonardo da Vinci مثلًا، إعتَبَرَ أنَّ هذا السِّرَّ مُرتَبِطٌ بِالقُوّةِ المُحرِّكَةِ العُظمى في الكَون Dynamisme، وأنَّ الإنسانَ، بِحَدِّ ذاتِهِ، غيرُ مُكتَمِلِ القُدرةِ والقُوَّةِ، وقد وضَعَهُ في وَسَطِ هذه القُوّةِ المُحرِّكَة، كَمُشارِك ومُتَلقّي لاكِتمال التَناغم.

وقد شُبِّهَتْ أعمالُهُم غيرُ المُنتَهِية، بفَجواتٍ تَنتَظِرُ أن تَعبُرَها أشِعَّةٌ (Des faisceaux lumineux) مِن فَوقُ، تَدخُلُها وتَملأُ كُلَّ نَقصٍ فيها، وإلى أن يَحينُ ذلك، هم في حَرَكَةٍ مُستَمِرَّةٍ مِلؤها البَحثُ والعَمَل.

أمامَ هذا الواقِعِ، ينتَصِبُ بولسُ الرَّسولُ مُخاطِبًا الجميع كما خاطبَ الأَثِينِيّين في تلِّ آريوسَ باغوس: الّذي تَبحَثُونَ عنه، ونُفوسُكُم تائقةٌ إليه، "هذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ"(أعمال ٢٣:١٧)؛ هُوَ يسوعُ الّذي احتَفلنا بِميلادِه المجيد، ومُكمِّلٌ كُلَّ نَقصٍ، ومَالئُ النُّفوسِ قُوّةً وفَرَحًا وسلامًا، ومِن دُونِهِ نَبقَى غير مُكتَمِلينَ مَهما علا شأنُنا وعَظُم.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] جميل: "أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا"(تكوين ٢:٦)

خير: "وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ"(تكوين ٩:٢)

جيّد: "وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ"(متى ١٠:٣)

حسن: "فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ"(متى ١٦:٥)

صالح: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"(يوحنا ١١:١٠)