أن تُضَاف سنةٌ أو قرنٌ الى ألفيَّاتِه، ليس في ذاك هَمُّه.

إفتِخَارُه أنَّه أعطى معنى للكِبَر الآتي مِن مَرِّ الدُهور.

قيل فيه، بِتَلَّهُفِ إسناداتِ ​التاريخ​، أنَّ جَبَلَه مَطلِع لقاءِ الخَالقِ بِخَليقَتِهِ: عليه إستقَّرَ الله، وإليهِ هَدى آدم وحواء وقد طَرَدَهُما من السُكنى بمَعيَّته بعد المعصيَة، والمعصيَة تأليهُ أنفُسهما بأنفُسهما مُستَغنِينَ عن مَرضَاتِهِ. وفيه أنجَبَا قايين الذي قَتَلَ أخاه هابيل، فكانت أوَّل جريمة في التاريخ البشريِّ... ومِن يومِهَا أصبحَ هذا التاريخُ مكتوباً بالدماءِ البشريَّة التي إستَغنَت عن الله.

وإذ تواصَلَت إنسيابَات الإنحدار البشريِّ هُبوطاً الى ما دون القعر الجحيميِّ، إزدادَت إستِكانَتَه هو في هديرِ الصعودِ صَوبَ العِزَّة الإلهيَّة.

ما همَّني كثيراً إنتشاءُ مؤرِّخينَ وإمتعاضاتُ آخرين.

إدراكي أنَّه المُتَربِّعُ أبداً على ثورةِ المعنى الصَدوق، من دون أن ينوء تحت عبئِها، هو كِفَايَتي. وذروةُ مَدَارِكي أنَّه، هذا الوطنُ الذي إليه إنتِمَائي، قد تَسَيَّد التاريخَ... كلَّ التاريخِ، بِفِعلِ الحقيقةِ التي إليها إنتَمى وبِهَا نما.

وقد شاءَ في ألفيَّاتِهِ، أن يَجعل من الحقيقةِ عينها، لحظة تَجَلٍّ في حياةِ شعوبٍ واوطانٍ، لَطَالما إستوقَفَ دورَانُهُما على ذاتِهِما ليطرحَ عليهما إشكاليٍّات لا نِهائيَّة لها، تارِكاً لهما، أوطاناً وشعوباً، أن ينكَشفا للحقيقةِ على ما هُمَا.

بذلِكَ، غدا المِفصَل، بين ما قَبلَهُ –حيث لا تاريخَ بل سَرديَاتِ تَسَلُّطِ قوَّة–، وما بَعدَهُ –حيثُ المُستَقبَل، إنعتَاقُ حقٍّ–، وهوَ المُتَرَسِّلُ في الما قبل والما بعد، مُتَرَبِّعٌ على اللامألوف... فكانَ الشَهيد عن الكلِّ... جَريمَتُهُ: مُخَالَفَة السُنَن.

المحكوميّة

ها حاضِرُ الشعوبِ والأوطانِ، الغارقُ في اللامعنى، والمُتَفلِّتُ من ضَوابط المنطقِ، والمُتَمَزِّق حدَّ التَبَعثُر غُبَارَ زَمَانٍ، يَحكُمُ عَليه بالموتِ مُنفَصِلاُ عن التاريخِ الذي إبتدعه كَلِمةً على صُورَتِه كَمِثاله، والمستقبل الذي شاءه شرائِعَ مُسَاواة على مِثاله كصُورَتِه.

فَغَدَا هو الشهيدُ-الذبيحةُ عن مَعاصي هذا الحاضِر. كيفَ لا، وهو نَقَضَهُ بِكلِّ شيء:

حينَ تُولَد الاوطان بالتسطيح، كان هوَ بالتمرُّد، وحينَ تنتشي شعوبٌ بالذوبان، إبتَدَع الوحدة بالتنوُّع.

حينَ أُرِيدَ للشرق أن يَغمِضَ عينيه بِعَمىً مُطبَق، فَتَحَ هو عيونَ مَن بِهِ العمى طبيعةٌ، وحينَ أُرِيدَ للغرب إبحاراً إلى غياب، تَرَسَّل هو في الحضورِ بِهِ يَغلِب كلَّ أُفولٍ.

بل حينَ أسلَمَ ​العالم​ بشريَّته إلى نهائيِّة الموت، لم يتردَّد في التكامُل مع ذاتِهِ، هذا اللبنان، ومع عالَمِهِ، مِن شَرقٍ وغربٍ، ولو كانَ رُعَاعُهُ رَذَلوه وَصَلَبوه.

أجل! إنّه إذ عَرِفَ كيف يَستَشهِد، إستدرَجَ هو كيانيَّتَه إلى الموتِ فِدَاء عن العالم ليُقيمَ ذاتَهُ والعالم في لانهائيَّة الحياة... في القيامة. بها، يَهدِمُ حَضَارات الأسوار وثَقافاتِ الأَغلالِ ودِيَانات الأِستِعبَاد، راسياً في الآخاِت البشريَّة وجوبيَّة التلاقي بينَ البشر، وبينَهم وبَينَ الله الحقِّ.

قلتُ: هو الذبيحة. بل هو المَذبح والذَبيحة في آنٍ: أمسِ واليومَ وغَداً. وَلا عَجَبَ أن عليه، هو الجبلُ الشاخصُ من فوقٍ إلى الصَحارى الوجوديَّة وقوافِلَها الراتِعَة في الهيجان، تَجَلَّى إبنُ الله المتأنِّسُ، لَصِيقَ كُلَّ كائنٍ بشريٍّ، ليُعِيدَ بَهَاءَه إلى مَصدَرِ وُجودِهِ ومَصَبِّه في آنٍ.

هو المذبح والذبيحة...

وَلو لم يَبقَ لِهَذا العالمِ الهَائِمِ في عُقم إدِّعاءَاتِهِ شيءٌ فيه ومِنه، فَهُوَ أبداً باقٍ، جديداً، رمزاً لِمَنَاعَة الخلودِ في مِلءِ التَحَابّ.