تُقيمُ الكَنيسةُ الأرثوذكسيّة في اليومِ التّالي لِعيدِ الظُّهورِ الإلهيّ، عيدًا جامعًا[1] للقدّيسِ يُوحنَّا المَعمدانِ.

القِدّيسُ يوحنَّا المَعمدانُ مِثالٌ لِعَدَمِ المُساوَمَةِ على الحَقِّ مَهما كانَ الثَّمن، فَهو أَعلَنَ جَهارًا خَطيئَةَ هِيرودُسَ المَلِكِ غيرَ خائفٍ مِن سُلطَتِه. الأخير أمرَ بقطعِ رأسّه، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ يوحنا مِن كِبارِ القِدّيسين، وهِيرُودُسُ وزوجتُهُ هيروديا وابنَتُها سالومي، نَالُوا ما استَحقَّت أعمالُهُم مِن جَزاء، لأنَّ مَن يَتّخِذِ الشَّرَّ طريقًا له، يَنتَهي حَتمًا في جَهنَّم، مَهما علا شأنُهُ وبَلَغَ سُلطانُه، لأنَّ قولَ الرَّبِّ صادِقٌ وحُكمُهُ عادِلٌ ومَنصُور.

لِقِدّيسِنا حُضورٌ مُميَّزٌ في الفَنِّ الكَنَسيّ، وهَذا ما سَتتنَاوَلُهُ هذه المقالَةُ بإيجاز.

مُنذُ بِدايَةِ المسيحيّةِ، عَمَدَ المؤمِنون إلى تَصويرِ حَدَثِ المَعمُودِيَّةِ، بِحيثُ تُوجَدُ جِدارِيَّاتٌ مِنَ القرنِ الثَّالِثِ الميلادِيّ في دَيامِيسَ روما، يَظهَرُ فيها كُلٌّ مِنَ الرَّبِّ يَسوعَ ويُوحَنَّا بِشعرٍ قَصيرٍ، وبلا لِحية. ولكن سُرعانَ ما بَدأتِ التَّصاويرُ الكَنسيَّةُ تأخُذُ طابَعًا خاصًّا، انطلاقًا مِن انصهارِ فنونٍ سابقةٍ كَحضارةِ بِلادِ ما بينَ النَّهرين، والفنِّ الهلّينيّ الّذي كان قد انتَشرَ بِقُوّةٍ مَعَ الاسكندرِ الكَبيرِ ومَن خَلَفَه، والرَّسمِ الفَيُّومِيّ - الرُّومَانيّ Faiyum portraits في مِصرَ، والفَنِّ الرُّومانيّ بِشَكلٍ عامٍ، والفَنِّ المَحلّي.

كَذلِكَ تُظهِرُ عِدَّةُ فُسَيفساء[2] في Ravenna[3] مِنَ القَرنِ الخامِسِ والسَّادِسِ الميلاديّ حَدَثَ المَعمُودِيَّة، بِحَيثُ نَرى الرَّبَّ ويُوحَنّا بِالشَّعرِ الطَّويلِ واللّحيةِ، كما نُشاهِدُهُما في الأيقونَاتِ اليوم، وهِيَ رُسوماتٌ قِسطنطِينِيَّةٌ جَامِعَة.

وحَولَ شَخصِ القِدّيسِ يُوحنّا، تُظهِرُهُ الأيقُونَةُ، بِشَعرٍ مُتَدلٍّ كَسائِرِ الأنبياءِ الّذينَ نَذرُوا أنفُسَهُم للهِ، مُلتَحِيًا، رَصينًا، وعلاماتُ النُّسكِ والجِهادِ ظَاهِرةٌ على وَجهِه، وهو رَشيقُ القَامَةِ وضُلوعُهُ ظَاهِرَةٌ، إشارَةً إلى صَومِهِ الشَّديدِ، إذ كانَ طعامُهُ جَرادًا وعَسَلًا بَرّيًا.

كما لَهُ أيقونَاتٌ عَديدةٌ يَحمِلُ فيها بكُلٍّ اعتِزازٍ رأسَهُ المقطوعَ، أو نَجِدُهُ مَوضُوعًا على حِدَةٍ، وفي أيقُوناتٍ أُخرى حامِلًا صَليبًا دَلالَةً على استِشهادِه.

هُناكَ أيقونةٌ[4] رائِعَةٌ للقدّيس مِنَ القرنِ الثَّالثَ عَشَرَ، مُدَوَّنٌ عَلَيها "القِدّيسُ والمَعمدان يُوحَنّا"، تُظهِرُهُ مُحاطًا بِأربَعَةَ عَشرَ مَشهدًا مِن حَياتِه، يُبارِكُ فيها بِيَدهِ اليُمنى على شَكلِ الأحرُفِ الأُولى لاسمِ يَسوعَ المَسيحِ بِاليُونانِيَّةِ ICXC، ويَحمِلُ في يَدِهِ اليُسرى صَلِيبًا ويَافِطَةً كُتِبَ عَلَيها ما قَالَهُ عن يَسوعَ، عِندَما رآهُ مُقبِلًا إليهِ: «هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ"(يوحنّا ١: ٢٩).

كَما نُشاهِدُ شَجَرةً على جِذعِها فأسٌ، إشارةً إلى ما قَالَهُ المَعمدانُ للفَرّيسِيّينَ: "وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ." (متى ١٠:٣). أمَّا الشَّخصُ السَّاجِدُ، فعلى الأرجح هُوَ مُقَدِّمُ الأيقُونَة، ويَبدُو إكليريكيًّا من خلالِ لِحيَتِه وثيابِه.

كذلك للقِدّيسِ في الغَربِ لَوحاتٌ مَشهورةٌ جدًّا، وقَد تكونُ لَوحَةُ [5]Leonardo da Vinci أشهرَها[6]، يبدو فِيها القدّيسُ مُشيرًا بإصبَعِهِ إلى السَّماءِ دَلالةً على مَجِيءِ المَسيح. ما يُميِّزُ هذهِ اللَّوحَةَ الحِرَفيَّةُ في الرَّسمِ، مِن خلالِ التَّظليلِ الّذي يُنتِجُ انتِقالاتٍ في غَايَةِ النُّعومَةِ بَينَ الألوانِ ودَرجَاتِها (Sfumato).

لا مَصدَرَ واضِحًا للنُّورِ فيها، كأنَّهُ إشراقٌ داخِليّ يَخرُجُ مِنَ القِدّيسِ ذاتِهِ، فَيَبدُو مُشِعًّا بِنورٍ ذَهَبيٍّ بَرَّاقٍ وَسطَ ظُلمَةِ الخَطيئَةِ الّتي دَعا النَّاسَ للتَّوبَةِ عنها، ويبدو أيضًا آتيًا بِحَركةٍ دائِريَّةٍ مِنَ الخَفاءِ إلى العَلَن لِيَعودَ ويَختَفي.

قد نَجِدُ هنا تَشابُهًا بَينَ الأيقُونَةِ واللَّوحَةِ، في مَوضُوعِ النُّورِ غَيرِ الظَّاهِرِ مَصدَرُهُ، إلّا أنَّ النُّورَ في الأيقُونَةِ مَصدَرُهُ المَسيحُ الّذي يُضيءُ كُلَّ شَيءٍ، وهَذا ما يُفَسِّرُ عَدمَ وُجُودِ أَيّ ظِلِّ في الأيقُونَةِ، لأنّنا أَصبَحنا في المَلكوتِ حيثُ النُّورُ الّذي لا يَغيب.

وجهُ القِدّيسِ في اللَّوحَةِ ليسَ كَوَجهِ ذَكرٍ أو أُنثى ([7]Androgynous). وقد شَكَّلَتِ البَسمَةُ على وَجهِهِ عَلامَةً فَارِقَةً، وفُسِّرَت إشارَةَ فَرَح، إذ لم تَكُن بَعدُ مَألُوفَةً في رَسمِ الأشخَاصِ، بل كانَت مُرتَبِطَةً بِعَدَمِ الجِدِيَّةِ وبِالإغواءِ والخَطِيئَة.

ولكنَّ هذا لا يَعنِي إطلاقًا أنَّ عَدَمَ وُجودِها يَجعَلُ الوُجوهَ حَزينَة، بَل رَصِينَة، وبِخَاصَّةٍ في لاهُوتِ الأيقُونَةِ الّذي يُظهِرُ وَجهَ القِدِّيسينَ مُتألِّهًا ومُستَنِيرًا، ويَضَعُهُم في الحُضُورِ الإلَهِيّ المَلِيءِ بِالغِبطَةِ والسَّلامِ الدَّاخِليّ الإلهيّ.

وَالمُلاحَظُ أنَّه قَبلَ ليوناردو، كانَت لوحاتُ المعمدان تَقتَصِرُ[8] على مَشهَدين: قَطعِ رأسِهِ، ومَعمُودِيَّةِ يَسوعَ. ويُوجَدُ تَقارُبٌ في هَذِهِ اللَّوحاتِ مَعَ الأيقُونَةِ مِن نَاحِيةِ وَجهِ المَعمَدَان: الشَّعرِ المُتدَلّي النَّاعِم، اللّحيةِ، مَلامِحِ النُّسكِ، الرَّصانَةِ، بِخِلافِ[9] ما أَظهَرَهُ دا فنشي.

وبَعدَ لَوحَةِ ليوناردو هذِه، كَثُرَ تَصويرُ الطَّاقَةِ الشَّابةِ بِلا لِحيةٍ ونِصفَ عارِية، حتَّى وصَلَ إلى العُري الكامِلِ رَسمًا ونَحتًا مَعَ تَقاسيمَ، فماثَلَ الفَنَّ الهِلّينيَّ والرُّومانِيَّ القَدِيم. ولِهذا الأمرِ تَفسيرٌ وهو: خَلعُ كُلِّ شَيءٍ عنِ الإنسانِ، والاتِّحادُ بِالقُوَّةِ العُظمى في الكَونِ والطَّبيعَةِ مِن دُونِ وُجودِ أيِّ عَوائِق إشارَةٌ إلى الإنسانِ الكامِل.

خُلاصَة، دعوةُ اللهُ لنا خَلع الخَطيئة والاستقامة والاتّحاد بِه، لذا يَقولُ لَنا القِدّيسُ يُوحَنّا المَعمَدَان "أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. إصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً"(متى ٣:٣)، لأنَّ طُرُقَ الشَّرِّ وحدَها مُعوَجَّة وتأخذنا إلى الهلاك.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] وذَلِكَ لأنَّه مُسبِّبُ العيدِ، أي عَمَّدَ الرَّب. هَذا أمرٌ مَتَّبَعٌ في اللّيتُورجِيا الأُرثُوذكسيَّة، فَمثلاً في اليومِ التّالي لعيدِ الميلادِ المَجيد نُقيمُ عِيدًا جَامِعًا لِوالِدَةِ الإله.

[2] Arian Baptistery ceiling mosaic- Baptistery of Neon ceiling mosaic.

[3] منطقة في إيطاليا على البحر، كانت ملتقى الفن الشرقي والغربي.

[4] مَحفُوظةً في ديرِ القِدّيسةِ كاترينا في سِيناء 70.8*48.8 cm

[5]1452-1519

[6]1513, 69×57cm

[7] هذا أمر موجود قبل المسيح في حضارات عدّة، كوجه إلهة الحب والجنس والجمال والحرب Inanna في بلاد سومر، والتي كان كهنتها من الجنسين. وكان يوجد ممارسات جنسيّة مثليّة كنوع مِن العبادة. وفي المسيحيّة أخذ هذا النوع من رسم الوجوه جدلًا بين مؤيّدٍ ومعارض.

[8] بالإضافة إلى رسمه طفلًا مع يسوع.

[9] تختلف الشروحات حول اعتماد دا فنشي هذا الأسلوب، فمنهم من يرجعه إلى حالة الإنسان قبل السقوط، وهذا ما نراه في وجوه الملائكة، ومنهم من يربطه برسم له للإله Bacchus الروماني الذي هو Dionysus إله المجون، ومنهم مَن ينسبه إلى ميول مثليّة عنده وعلاقة مع تلميذ رافقه.