لبنان مُنحَدِرٌ مِن فَوق، ودَعوَته إرتقاءٌ الى فوق. في ذلك إكتمالُ ثقتِهِ بأعماقِهِ ورِضَاه عن نَفسه واطمئِنانُه الى أمانِ إيمانِهِ، في غَيرِيَّةٍ قلَّ أن عَرَفَها وطنٌ وعَمِلَ لها.

وحدُهم المُنحَدِرونَ الى هوّة السطحيَّة والنفعيَّة، الغارِقون في توحُّش الذاتيَّة ودُونِيَّة اللامبالاة وإستغلالِ الغير حَدَّإستعبادِهِ فإلغَائِهِ يَهيمونَ في الإضطرَابَات شَريعةً، ويَرتَعون في التمزٌّقِ قَدَراً، ويَعيثون في الباطِلِ مَصِيرًا.

هؤلاء، مِن داخِل كَمَا من خَارج يريدونَهُأسيراً بين حالتين: الإنفصَام عن ذاتِهِ حَدَّ الإغتراب، وتحيِّيد ذاتِهِ حَدَّ الإعدام. وفي الحالتين إعتناقُ لا الإحجامِ فَحَسب بلِ الموت مُهَاناً، مُدَاساً.

لهؤلاء أن يَتَمادوا في تَجرِبَتِه وإقصَاء ما طَابَ لهم. هؤلاء الرُعَاع ليسوا بِهَمِّي.

أنا إكتمالُ حريّتي بِهِ وَحدَه. وبِهِ وَحدَه أواجهُ هؤلاء جَميعاً، وغَيرَهم بعد... بضَرورة حُضُورِهِ.

حُضورُ الضَرورة

هو الإقدامُ الذي فيه قد أثبَتَ أنَّه من فِعلٍ أتى وإلى فِعلٍ يَمضي. وحِكمَةُ الفِعلِ أنَّه لا يَنبَثِقُ من تابِعٍ لعقيدة، ولا من مَقصِيٍّ عن إنتسابٍ، ولا من مُحَرَّمٍ عن مُثُل. حِكمَةُ الفِعل أنَّها من مُتَجَسِّدٍ، والمُتَجَسِّدُ هو على إمتدادٍ الأبَد حَامِلُ رسالةٍ.

وهو، إذ أرَادَ لنَفسِهِ أن يَتجَسَّدَ في تَناقُضاتِ هذا العالَمِ وفي مَصَائِبِه كما في تَفَشّي صِرَاعَاتِهِ، أدرَكَأنَّه لن يَخُطَّ حُضُورَه إلّا بِدَمِه، ودَمُهُ وَحده فِداءٌ وخَلاص، بِهِما يَكونُ ضَرورةً، ويَتطوَّعُ بالضرورةِ، ويَتبَرَّع بالضرورةِ.

أيَكونُ عَكسَ كَينونته؟ حَزمُ تَجَسُّدِهِ، هذا اللُبنان الفادي بِجَسَده وَدَمِّهِ العالم ومَا بِهِ ومَا فيه، أنَّه إذ يُقاسي مَعَاصي الزمان ومَكائِد المكان، –وكلاهما يَهويان بِهِ الى عَبَثِ جَحيمِهِما–، لا يَستَكينُإلّا بالنهوضِ الى فوق... مُقيماً مَعَهُ مَن في مَغَانِمِ الجَحيم يَستزِيدُ بَطَراً بالإهَانة والتَعذِيب.

لِذَاك النُهوض، إعترافي أنَّ وَطني، هذا اللُبنان خِزيَ المُنَافَقينَ والبُكَائِينَ، لصوصَ الهَيكل وَقَاتلي الحَقِّ، هو فِعلُ الروح: فِعلُ القيامة، مُعتِقُ الحُريَّة ومُحَرِّرٍكلَّ فِعلٍ مِن مَقَاصِد الشرورومِن حَرفِيَّة الرَصفِ على الآحَاديَّات.

قُلتُ: حُضُوراً في الضرورة، وأُضِيفُ: لَهَا ومِن أجلِهَا، في عَلاقَةٍ جَدَليَّة بينَه كَوَطَنٍ وبَينَ العالم كتَجرِبَة مُرهِقَة له. هي علاقَةُ تَوَاصُل وإنفِصَالٍ في آن: التَوَاصُل قِوَامُهُأنَّ جَوهَر حُضُورِه، جَسَدُهُ، مُستَمِرٌّابَداً لأنَّه مِن فَوق، وبِهِ يقومً في واقِعِ المَكان. والإنفصال، قَصدِي بِهِ ذاك التَمَايُزَ الذي بِضَرُورَتِهِ الأصليَّة، دَمُهُ، العَابِرُأبَداً كلَّ موتَ، وبه يُقيمُ في الفوق وَقاَئِع الزمان.

ظَافرٌ هكذا في تَجَاوزِ الممكن، والتَغَلُّبِعلى المُستحيلات؟ هو في تَجَاوزٍ، جَذرُهُ الثَبَاتُ بَين الغَلَبَةِ والمَجدِ، ونِقطَةُ إرتِكَازِهِ تَخَطِّيإمتِحَانات المَقهورِيَّة وَمِحَنِسَرَابَ اليَقين.

بِتِلكَ المواجَهَة اليَقِظَة، في عَميق النَفسِ، يَحفَظُ ذَاتَهُ وَطنَ العُبورِ من البَلاءإلى البَهَاء، مِن الخطيئة إلى الطُهر، مِن هُوَّة المَوتِ مَثوَى الظُلُماتإلى ذُرَى العُلوِّ الحَيِّ: الوَطَن الفِصحِيَّ، الوِطَن الآتي أبَداً، وقدأدرَكَأنَّ لا سُلطانَ لأَسرٍ عليه، سَواء أنحَدَرَ مِن قوميَّات مُتَلَبِّسَة أثوابَ عَصرَنَة، ولا مِن عِرقيَّاتٍ مُتَسَربِلَة بأهدِابَ دِيَانات، ولا مِن إعتِزَاليَّاتٍ مُتَكئة إلى شموليَّات... ولا مِن غِلمَانِ تَسَوُّلِهَا.

قُل مَعي: إنَّه وَطن المِعرَاج إلى السماء، المِعرَاجِأبَداً بِفِعل الروحِ الى الحُضُورِ، وهو مُنتَهى الشَغَفِ بالأَنسَنةِوذُروَتهتَوَهُّجُ الحقيقةِفي قَلبِ العَالَمِ، وقَد خَبِرَ في جَسَدِه وَدَمَهِ صُنُوفَ الهَلاك.