عندما طرح رئيس الجمهورية ميشال عون "مبدأ" الدعوة إلى طاولة حوار، في رسالته "الميلادية" التي وجّهها إلى اللبنانيين في الأسبوع الأخير من العام المنصرم، ظنّ كثيرون أنّها مجرّد "فكرة" يثيرها من باب "رفع العتب"، وأنّها لن تجد طريقها للتنفيذ للكثير من الأسباب والاعتبارات، من بينها ربما التجارب السابقة "غير المشجّعة".

بقي هذا الانطباع سائدًا حتى الأسبوع الماضي، حين بدأ الحديث عن "حوار آخر العهد" يأخذ منحىً جديًا، تزامنًا مع ما وُصِفت بـ"التسوية" حول فتح الدورة الاستثنائية لمجلس النواب نزولاً عند "رغبة" رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي قيل إنّه "تعهّد" في المقابل دعم المسعى الحواريّ لبعبدا، وتصدّر "المشاركين" فيه بطبيعة الحال.

وبالفعل، بدأت التسريبات تتوالى من قصر بعبدا عن انطلاق "التحضيرات اللوجستية" للحوار "الموعود"، بعناوينه المحدّدة والتي تشمل خطّة التعافي الماليّ والاقتصادي، والاستراتيجية الدفاعية، إضافة إلى مشروع اللامركزية الإدارية والمالية الموسّعة، وبدأ بالتوازي توجيه "الدعوات"، رغم إشهار العديد من الشخصيات المفترض دعوتها سلاح "المقاطعة" سلفًا.

يقول البعض إنّ طريق الحوار "غير سالكة"، أو أنّها لن تؤدّي سوى لحوار "مُستنسَخ" عن ذلك الذي عُقِد قبل سنوات، والذي كان أشبه بـ"حوار اللون الواحد"، ما يطرح العديد من الأسئلة، فلماذا يصرّ "العهد" على الحوار؟ وأيّ فائدة "مرجوّة" منه في هذا التوقيت الذي يعتبره البعض "مفصليًا"؟ وكيف يتلقّف "خصوم العهد" الأمر، وقد أعلن معظمهم "مقاطعة" الحوار؟.

لا يتردّد المحسوبون على "العهد" ومؤيّدو رئيس الجمهورية في وضع الدعوة إلى الحوار، في دائرة "محاربة المؤامرة" التي يتعرّض لها الأخير، ومحاولة وضع حدّ لـ"الحصار" الذي يريد البعض من الخصوم، وربما الحلفاء أيضًا، فرضه عليه في "آخر أيامه"، وهو بالتالي خطوة يُراد منها بالحدّ الأدنى، "تحريك" الساحة السياسية بعض الشيء.

يلفت هؤلاء إلى أنّ "العهد" وجد نفسه، مع وصوله إلى سنته الأخيرة، وكأنّه "لا حول ولا قوة له"، فالحكومة التي راهن عليها لـ"تعويض ما فات" عُطّلت وشُلّت قبل أن تكمل شهرها الأول واجتماعها الثالث، ومعطّلوها يرفضون "التنازل" أو حتى إبداء الحدّ الأدنى من "الليونة"، فيما رئيسها لا يقبل "القفز فوقهم" والدعوة إلى اجتماع لا يحظى سلفًا بـ"مباركتهم ورضاهم"، ما جعل الأمور تبدو "مقفلة" على كلّ المستويات.

ويلاحظ المحسوبون على "العهد" في هذا السياق، كيف قوبل مثلاً طرح التئام الحكومة لنقاش الموازنة، بالحدّ الأدنى، بالهجوم والتحدّي من قبل "المقاطِعين"، الذين يصرّون على "فرض" مطلبهم "قبع" المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت، وهو ما لا يبدو "واردًا" بالنسبة إلى "التيار"، ليس فقط لكونه يضرب مبدأ "فصل السلطات"، ولكنه لتبعاته "الكارثية" شعبيًا وشعبويًا، على أبواب انتخابات نيابية "مصيريّة".

من هنا، جاءت الدعوة إلى الحوار، لعلّه يشكّل "بديلاً" عن المؤسسات "المقفلة عنوةً"، وفق ما يقول هؤلاء، علمًا أنّ مفارقة مثيرة للانتباه، وربما الدهشة، تمثّلت في كون "المرحّبين" بالمبادرة الحواريّة والداعمين لها، هم في المقام الأول من يعطّلون الحكومة ويمنعونها من الحدّ الأدنى من الإنتاجيّة، ما ينبئ بإمكانية أن يفضي الحوار إلى نوع من "الخرق" للجمود الذي يطبع المشهد الحكوميّ والسياسيّ منذ فترة.

وإذا كان المحسوبون على الرئاسة يضعون الحوار في إطار "محاولة فعل" شيء ما، في ظلّ حالة الفراغ والشلل، فإنّهم يلفتون إلى أنّ "العناوين" المطروحة على طاولة الحوار المفترضة تفترض "التفافًا وطنيًا" حولها، وأولها خطّة التعافي المالي والاقتصادي، خصوصًا بعدما زادت الأزمة عن حدّها، وبات من الضروري تطوير خطّة "يجمع" عليها اللبنانيون، وتعزّز موقف الحكومة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي.

ولا يقلّ عنوان "الاستراتيجية الدفاعية" أهمية في هذا السياق، فهو يشكّل "استجابة" للضغوط والمطالب الدولية، وبالتالي يمكن أن يرسل "إشارة إيجابية" للأسرة الدولية، ويتيح للبنان "الاندفاع" أكثر في طلب دعمها، خصوصًا أنّ القاصي والداني يدرك "حاجة" البلد إلى هذه المساندة، في ظلّ الظروف "المأساوية" التي بات واقعًا في قلبها.

إلا أنّ كلّ ما يقوله المحسوبون على "العهد" يبقى "نظريًا وافتراضيًا" برأي خصومه، ممّن يعتبرون أنّ الدعوة إلى الحوار تأخّرت كثيرًا عن أوانها، بل إنّ "المفارقة" تكمن في أنّ رئيس الجمهورية يدعو إلى الحوار قبيل انتهاء ولايته، بعدما أمضاها وهو "ينبذ" الحوار، والكلّ يذكر كيف رفض أن "يكمل" ما بدأه الرئيس السابق ميشال سليمان في هذا الصدد، ساخرًا ومستهزئًا من الحوار، الذي لم يُفضِ سوى لـ"إعلان بعبدا" الذي نال نصيبه من "الاستهزاء العونيّ".

ويسأل هؤلاء عمّا هو مُنتظَر من حوارٍ يأتي في توقيت "خاطئ"، على أبواب انتخابات نيابية، يعرف الجميع أنّ مناخ "الحوار" لا يتناسب البتّة مع أجوائها "الافتراضية"، ولو أنّ البعض يقول إنّ الحالة اللبنانية اليوم "استثنائية" في كلّ تفاصيلها، فضلاً عن كونه يأتي قبل أشهر من نهاية "العهد"، ما يعني أنّ "تطبيق" أيّ مخرجات للحوار لن يكون ميسَّرًا، إلا إذا كان المطلوب الذهاب إلى حوار "من أجل الحوار"، لا أكثر ولا أقلّ، مع ما يعنيه ذلك من "مضيعة للوقت".

يبقى الأهم برأي خصوم بعبدا، والرافضين للحوار في الظرف الحاليّ، أنّ طاولة الحوار لا يمكن أن تكون "بديلاً" عن المؤسسات، وبالتالي فإنّ المطلوب اليوم ليس "اختلاق" مؤسسات جديدة تعوّض عن تلك "المشلولة"، بل العمل على "تحريرها" من القيود، وذلك يبدأ بـ"تفعيل" الحكومة، والضغط على المعطّلين، وجلّهم من "حلفاء العهد"، والمرحّبين بـ"الحوار"، علمًا أنّ الحديث عن أنّ الهدف من الحوار "مساندة" الحكومة في خطتها للتعافي لا يستقيم، طالما أنها لا تجتمع.

في النهاية، لا يبدو أن طريق الحوار ستكون مفروشة بالورود، وكلّ المؤشّرات توحي بأنّه لن يُعقَد، وإن عُقِد، سيكون أشبه بـ"مسرحية استعراضية" جديدة، لا يبدو الوقت مناسبًا أو ملائمًا لها. لعلّه في أحسن الأحوال سيشكّل فرصة جديدة لأطراف الصرع لتبادل الاتهامات وتقاذف المسؤولية، لكن هل يفيد ذلك انتخابيًا فعلاً، وهل هذا حقًا هو "ما يطلبه الجمهور" اليوم؟!.