على الرغم كلّ ما قيل عن التحرّكات والإحتجاجات الشعبيّة منذ 17 تشرين الأوّل 2019 حتى اليوم، فإنّ ما حصل منذ أكثر من سنتين لم يرقَ إلى مُستوى "​الثورة​" على الإطلاق، ولا يُمكن حتى وصفه بالإنتفاضة الشعبيّة. فما هي الأسباب التي تحول دون إنتفاض الشعب ال​لبنان​ي بوجه حُكّامه؟.

أوّلاً: هناك طبقة من الناس لم تتأثّر بكل ما حصل، حيث تمكّنت مثلاً من تهريب أموالها قبل الأزمة، أو هي إستفادت من الثغرة الماليّة التي حصلت لتسديد دُيونها على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أو مثلاً هي تقبض رواتبها ب​الدولار​ الأميركي، وصارت بالتالي تدفع دولارات أقلّ لشراء الكثير من السلع وللحُصول على الكثير من الخدمات التي كانت أغلى ثمنًا في السابق، لأنّه-وبعكس ما يظنّ الكثيرون، الأسعار في لبنان إنخفضت عند قياسها بقيمتها بالدولار الأميركي، على الرغم من الإرتفاع الهائل الذي حصل عند تقييمها بالليرة اللبنانيّة. ولكلّ ما سبق، لم تتحرّك هذه الطبقة في الشارع، وجزء منها يُعتبر مُستفيدًا من الأزمة!.

ثانيًا: هناك طبقة أخرى من الناس لا تزال قادرة على تأمين مَعيشتها، بفعل زيادة راتبها أو تحويله إلى اللولار، أو بفعل مُساعدة تتلقّاها بالدولار من أنسباء لها في الخارج، وهي بالتالي تعتبر أنّ وضعها أفضل من سواها، على الرغم من تراجع مُستوى حياتها على مُختلف الصُعد. وهذه الطبقة تُوصف بالصامدة نسبيًا، وهي تقف جانبًا ولا تُشارك بأي إحتجاجات، في إنتظار حُصول تحوّل ما في الوضع اللبناني.

ثالثًا: هناك طبقة ثالثة من الناس صارت تحت خطّ ​الفقر​، وهي تُعاني الأمرّين لتأمين الحدّ الأدنى من مُقوّمات العيش من مأكل ومَشرب، لكنّها بلغت مرحلة اليأس من كل شيء، ولم تعد تقوم بأيّ تحرّك إعتراضي في الشارع، وهي تعيش ضُغوطًا عمليّة ونفسيّة ومَعيشيّة هائلة.

رابعًا: تُوجد فئة من الناس أدركت أنّ ما حصل ويحصل على الأرض منذ سنتيّن ونيّف، هو عبارة عن تحرّكات غير عفويّة، تُحرّكها جهات سياسيّة وحزبيّة من وراء الستار، لتمرير رسائل أو لتسجيل نقاط أو لممُارسة الضُغوط، إلخ. وهذه الفئة إنكفأت تمامًا عن الشارع، وهي تبحث عن مخارج لها على مُستوى الشخصي، مثل ​الهجرة​ أو العمل لصالح شركات أجنبيّة من لبنان أو في إحدى الدول الخليجيّة أو الإفريقيّة، ولم يعد يهمّها ما يحصل على المُستوى العام.

خامسًا: تُوجد فئة من الناس تريد التحرّك في الشارع، والتعبير عن غضبها من الأوضاع وعن سعيها للتغيير، لكنّها أدركت حجم الإستغلال السياسي للتحرّكات، وحجم العامل السياسي في الكثير من تحرّكات الشارع، وهي لاحظت كيف تُلغى تحرّكات شعبيّة واسعة بإتصال هاتفي واحد، وكيف تتوسّع وتشمل تحرّكات أخرى كل المناطق، في حال إرتأت بعض المرجعيّات السياسيّة منحها "الضوء الأخضر" لذلك من وراء الكواليس! وهذا ما يُفسّر عدم مُشاركة الكثيرين في تحرّكات "يوم الغضب" أمس الخميس.

سادسًا: تُوجَد فئة من الناس ترفض أساليب التعبير التي إعتمدت في السابق وتلك المُعتمدة اليوم، إن لجهة رفض قطع الطريق على الناس، ومنعهم من مُزاولة أعمالهم، ورفض تعريض أرزاق الناس للخطر، بدلاً من قطع الطريق على المسؤولين الرسميّين حصرًا، والضغط على من تسبّب بوُصول لبنان إلى هذا الدرك، أو كذلك لجهة رفض إختيار واجهات وعناوين غير مُناسبة للتحرّكات، بدلاً من التظاهر أمام منازل المسؤولين الرسميّين، وأمام المواقع السياسيّة والإقتصاديّة والماليّة، إلخ. التي تسبّبت بإفلاس الدولة ونهب ثرواتها، وُصولاً إلى نهب و​سرقة أموال​ المُودعين في ​المصارف​.

سابعًا: تُوجد فئة من الناس لا تزال مُصرّة حتى هذه اللحظة على أنّ زعيمها السياسي أو الطائفي، بريء من كل ما حصل، وأنّ المسؤوليّة تقع حصرًا على آخرين، وربّما على كلّ الآخرين. والمُفارقة المُضحكة والمُبكية في آن واحد، أنّ هذه الفئة من الناس تتوزّع على جماعات طائفيّة ومذهبيّة مُختلفة ومُتناقضة، وعلى تيّارات وأحزاب سياسيّة مُتضاربة، والجامع الوحيد بينها إستثناء "زعيمها" ولصق المُوبقات بالآخرين.

ثامنًا: تَيقُن كلّ الناس أنّ التركيبة اللبنانيّة السياسيّة والحزبيّة والطائفيّة والمذهبيّة تحول دون قيام الجيش والقوى الأمنيّة الرسميّة، بانقلاب عسكري لإستلام السُلطة، كما يحصل في دُول أخرى تشهد إنهيارًا مُماثلاً للإنهيار الذي ضرب لبنان، علمًا أصلاً أنّ لبنان ليس بلدًا رئاسيًا أو يحكمه زعيم واحد، ليتمّ الإنقلاب عليه، بل هو عبارة عن تركيبة سياسيّة كاملة تتداخل وتتناقض في ما بينها، في آن واحد! وهذا ما يُكبّل القُدرة على فرض التغيير بقُوّة السلاح الشرعي.

في الختام، وإنطلاقًا مِمّا سَبق، من الواضح أنّ أيّ تحرّك شعبي في الشارع لتغيير النظام غير وارد، ليس بسبب عدم إقتناع وحتى تخاذل الكثير من الناس فحسب، بل بسبب إنقسامات كبيرة بين الناس أنفسهم، وبسبب حال من اليأس الجَماعي، وكذلك بسبب التركيبة السياسيّة والطائفيّة للنظام اللبناني، والتي تمنع حُصول أيّ تغيير جذري أيضًا. وبالتالي، مهما تعدّدت "أيّام الغضب"، الأوضاع باقية من دون تغيير يُذكر، وكلّ ما يحصل هو عبارة عن "تنفيسة" شعبيّة مُتعمّدة هنا، ورسالة سياسيّة ضاغطة هناك، وحركة مصلحيّة ضيّقة لقطاع مُحدّد هنالك!.