على صخور نهر الكلب، محفوراتُ إندحارٍ لِمَن عَبَروه وإندَثَروا لأنَّه بقي عاصياً عليهم: غزاةٌ هُمُ، إستَتبعوا القوَّة نَهجاً وإستثمروا الإستِعدَاء مَسَاراً.

إنّه لبنان، الذي إستَصغَرَهُ من تَلَّبس مَنطِقَ السيطرة، وإستَغفَلَهُ من إستساغ لامنطق الإستِتباع. كلاهما، كانت نهايتُهما مِن هنا... وما تَعَلَّما، وما تَعَلَّم مَن أتى وسيأتي مِن بَعدِهِما.

ليس في الأمر غَرًابة، فلبنان ما قَوِيَت عليه قوَّة، ولا إستَحكَمَت بِهِ عقيدة مِن مُستَولَدَات قوَّة، ولا تمكَّنَت مِنه ايديولوجيَّة وريثة الغائيَّات قوَّة.

سِرُّهُ أنَّه أقوى مِنها كلِّها في قُربِهِ مِن الحقَّ، فيما هي أضعَفُ مِنه في بُعدِها عن الضمير.

مَن يَخاف عليه هذا اللُبنان، يَكفيهم أن يَجزَعوا عندَ ايِّ تَمَلُّق مُحاولاتِ دُنوِّ مِن سِرِّه، مِن دَاخل أو مِن خَارج. أنا أبقى مُرتَاحاً لِمَسَارِ الحَياة فيهِ، وقد جَعَل لَهَا مَوَاعيد يُجَدِّدها كلَّما غاصَ في تَعَهُّدِهِ قضيَّةَ الإنسان، فيما إلتزامُ ما ليسَ هو هلاكٌ بِهَلاك.

مُتمَرِّسٌ بالوجود، وهو مَدَاه الأرحَب وسَطوَة بَرَاعَتِهِ.

مُتَّحِدٌ بالمُمارسة، وهي تَوَاصُلُه الأفعل وسَطوَة طبيعتِهِ.

هو الدرُّ، وقوى النَقضِ وجَبروتها موتٌ، تتآلب عليه، دهراُ بعدَ دهرٍ. حَسبُهَا في كلِّ مرَّة أنَّها جَنَّدَت مُعَسكَرَاتٍ مِن غِلمانٍ وسَمَاسرةٍ وعبيدٍ، وإستعطَفَت مُرتزَقَةً، وإستَجلَبَت حُسَّاداً، ودَفَعَت أموالاً لِنِهايات لَهُ حاكَتهَا بِبَراعةٍ فإذا نِهايَتها على أرضِهِ. وأرضُهُ قِمَّةُ تاريخٍ وإنبِساطُ إهراءِ قمحٍ لأمبراطوريَّاتهم.

هُم تَوَاعَدوا على سَحقِهِ، فَعَمَّدَهُم بِنَارِ الأمَانةِ للإنسان يَبني هو جسورَ الحريَّة.

يَضرِبُونَهُ فَيُطعِمُهُم خُبزَ الحياةِ.

هم عَقدَوا المواثيقَ على دَحرِهِ، فَعَمَّدَهُم بِنَار الوَفاءِ لتَعُدديَّةٍ تَصنَعُ هي دروبَ التَواثُق.

يُسقِطُونَهُ إلى جَحيِمِهِم فَيُعلِيهِم إلى رَهبَةِ التَحَرُّر.

فَيضُ الوعي الشَامِل

أمَامَ شُموليَّاتِ المَهَاوي هذه التي يُسقَطُ بها، عداوةً ورُعباً، يَفيضُ لبنان دوماً وعياً شاملاً يُطلِقُ العقولَ صَوب وَهجِ الشمس وتَوهُّج المُطلق. وعياً لا تَحُدُّهُ إستفرَادَاتُ عُنفٍ ولا إستعلاءَاتُ تَوَحُّشٍ ولا تِرِاكُماتُ إرهابٍ. كَمَن يواجِهً نهايةً مَقصودَةً له بِتَسَلُّقِ قِمَمِ اللانهائيَّات الإنسانيَّة التي بِهَا يَقودُ الحياةَ مِن مِسيرةٍ الى مَسيرةٍ، مًدمَى لكن قائماً بِخُصُوبَة الحيِّ أبداً.

أَلَم يَرتَووا بَعد مِن عُقمِهٍم أولئِكَ الذينَ يَجيئونَ إليه بإلغائيَّاتٍ مُدَجَجَةٍ تارةً ِبسِلاحٍ، وأطواراً بأشكالِ طُغيانٍ، يُعَاد تَدويرها مِن جيلٍ الى جيلٍ؟ لا شَخصانيَّاتٍ دينيَّةً ولا مُطلَقَاتٍ قَبَليَّةً ولا وِلاياتٍ فِقهيَّةً تَمَكَّنَت مِنهُ أو على الأقَّلِ رَوَّضَتهُ. كما لا مُبتَغَيَاتِ مَمَالِكَ الظُلُماتِ ذَوَبَتهُ في أتونِ إنصِهَارَاتِها الدَمَويَّةِ.

هو مِن نارِ العُصيانِ إنبَثَقَ، وهُم كلُّهُم الماضون الى مَحوِهِ مِن المَعصِيَة. وإلى النورِ يَمضي وَحيداً، فيما هزيمَتُهُم تَجمَعُهُم.

حَسبُهُ أنَّه لا يكتفي بِحِفظِ ما هو، بل بتَفيِّيضِهِ على الآخرينَ، مُقنِعاً إيَّاهُم بأنَّ مِن حَقِّهم أن يكونوا ما هُم لا أن يَفرِضَ عليهم ذلك آخرونَ ليسوا مِنهُم.

في ذلك لبنان مَدخلٌ الى الآتي، وليسَ باباً الى الجَحيم.

ويَعرف أنَّ عُريَ الموتِ ولَهَبَهَ سيَبقيَان يُلاحقانِهِ إلى المنتهى، لعلَّ في مَرَّةٍ يُردِيَانَهِ، فيَنتَصِبا عُنوَةً فوقَ رَمادِهِ وقد أفاضا مِن حِقدِهِما ما يُغرِقُ كافَّةَ صخورِ نهر الكلب، كَمَا يَعرِفُ أنَّ مُمكِناتِ الظُلم لن تَرِثَهُ.

كفايَتُهُ، لبنان، أنَّه كلَّما تَحَطَّمَت فيه بَشَائِرُ حياةٍ، سارّ مُحَطِّمُها للإنقضاءِ، وَجَدَّدَ هو مَطالِعَ العطاءِ الذي يَبتَدِع مُفاجآتِهِ التي مِن روح.