تَنتصِبُ أمامَنا أَيقُونةُ(1) الرَّبِّ يَسوعَ المسيح في سيناء قائلةً أن يسوع "إلهٌ وإنسان"، وتُخاطِبُنا مُباشَرَةً، وَجهًا لِوَجه، كَأنَّها تُرَنِّمُ الآيةَ الأخِيرَةَ مِن المَزمُورِ السَّادِسِ والتِّسعين، الّذي يُعلِنُ مَجدَ الرَّبِّ وعظمَتَه، ويَدعُونا أن نَقِفَ أمامَهُ قائلين: "أَمَامَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ جَاءَ. جَاءَ لِيَدِينَ الأَرْضَ. يَدِينُ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ وَالشُّعُوبَ بِأَمَانَتِهِ." (مز١٣:٩٦).

تَعودُ هَذِهِ الأيقُونةُ المَحفُوظةُ في دَيرِ القِدّيسةِ كاترينا في سِيناء إلى القَرنِ السَّادِسِ الميلاديّ، وتُعرَفُ "بِالضَّابِطِ الكُلّ"، كَونَ الرَّبِّ يَحمِلُ في يَدِهِ اليُسرى إنجِيلًا مُغلَقًا وعَليهِ صَليبٌ، ويُبارِكُ بيَمينِه، وشَكلُ أصابِعِهِ يَرمُزُ إلى الأحرُفِ الأَربَعَةِ الأُولى وَالأخِيرَةِ لاسمِ يَسوعَ المَسيحِ في اليُونَانِيَّة ICXC.

صَحيحٌ أنَّها تُعتَبَرُ الأيقُونَةَ الأقدَمَ للرَّبِّ، إلّا أنَّها تُجَسِّدُ أمرًا يَبقى حَدِيثًا مَهما مَرَّتِ الأيَّامُ والسُّنون، ألا وهو مَسيرَةُ الإنسانِ على هذه الأرض، وعُنوانُ هذه المَسيرةِ الآيةُ الأُولى مِنَ المَزمورِ ذاتِه: "رَنِّمُوا لِلرَّبِّ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً". والتَّرنيمَةُ الجَديدةُ هي الوِلادَةُ الجَديدَةُ، بعدَ مُراجَعَةِ الذَّاتِ بِصِدقٍ وشَفافِية، والدُّخولِ في تَوبَةٍ صادِقَةٍ، عِندَها يَنظُرُ اللهُ إلينا بِعَينِ الرَّحمَةِ في الدَّينُونَةِ، ويُقيمُنا عن يَمِينَه.

المَيزةُ الطَّاغِيةُ على هَذِه الأيقُونَةِ المَكتُوبَةِ بالشَّمعِ والعَسَل ""Encaustique، هي العَينان. وقد تَكلَّمَ العَديدُ مِنَ الآباءِ على هذا الأمر، ولَحَظُوا أنَّ العَينَ اليُمنى تَرمُزُ للّذينَ سيُقيمُهُمُ اللهُ عن يَمينِه، أي مَعهُ في المَلَكُوتِ، بَينما العَينُ اليُسرَى تُشيرُ إلى الّذينَ حَكَمُوا على أنفُسِهم، بِإصرارِهِم على فِعلِ الشَّرِّ وَعدَمِ العَودَةِ عَن خَطاياهُم، فأتى حُكمُ الرَّبِّ تُجاهَهُم عادِلًا.

عينا الرَّبِّ في هَذهِ الأيقُونَةِ تَجعلُنا نَقِفُ بِرَهبَةٍ، ونُعيدُ كُلَّ حساباتِنا، هذا إن أدرَكنا حقًّا أنَّ هناكَ حياةً أبدِيَّةً تَنتَظِرُنا كما وَرَدَ في إنجيلِ يوحنّا: "لاَ تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ"(يوحنا ٢٨:٥-٢٩).

صحيح أن المسافة بين العين اليمنى والعين اليسرى قصيرةٌ جِدًا، إلا أنّها في الواقع كبيرة جدًا، لا بل هي هوّة عظيمة كما يذكر مثل لعازر والغني "بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا"(لوقا ٢٦:١٦).

وهنا النُّقطَةُ المِفصَلِيَّةُ والجَوهَرِيَّةُ، لأنّنا ما دُمنا في الجسد، فإنَّ إمكانَ العُبورِ مِنَ الجِهَةِ اليُسرى إلى الجِهَةِ اليُمنى، ليس مُمكِنًا فَحسب، لا بَل يَتحقَّقُ بلَمحِ البَصَرِ إذا ماثَلْنا الابنَ الشَّاطِرَ في صَرختِهِ الصَّادِقَةِ: "أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ"(لوقا ١٨:١٥).

فَلنُلاحِظْ هَذَينِ الفِعلَين "أَقُومُ وَأَذْهَبُ" اللّذَين يتلَخَّصانِ بِكَلِمَةٍ واحِدَة "القِيامَة" أي العُبُور، وهَذا العُبورُ قِوامُهُ الحِكمَةُ الّتي تَدعُونا إلى قاعِدَتَين خَلاصِيَّتَين: الإصغاءُ والاستِقامَة.

الإصغاءُ لِكَلِمَةِ اللهِ، كما نَسمَعُ في صَلاةِ الغُروب عندما يُعلِنُ الكاهِنُ قبلَ القِراءاتِ الثَّلاثِ الّتي عادَةً ما تَكونُ مِنَ العَهدِ القَدِيم، أو قبلَ الرِّسالةِ في القُدَّاسِ الإلَهِيّ، يُعلِنُ "حِكمة لِنُصغ".

والاستِقامَةُ عِندَما يَقولُ الكاهِن بِصَوتٍ جَهوَرِيّ "الحِكمَة فلنَستَقِم"، وهو رافعٌ الإنجيلَ بِكِلتَي يدَيهِ في الدُّخولِ الصَّغيرِ في القُدّاس. وهيَ السَّيرُ في طَريقِ الإنجيلِ، كما صَرَخَ القِدّيسُ يُوحنَّا المَعمدان: "أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً"(مرقس ٣:١).

فَهذِهِ إذًا الحِكمَةُ الإلَهيَّةُ الّتي يَجِبُ أن نُجاهِدَ لاكتِسابِها، والّتي تَمنَحُنا الوَعيَ لاكتِشافِ تَسلُّلِ الخَطيئَةِ إلى نُفوسِنا، ونُموِّها التَّصاعُديّ الزَّاحِفِ، فننجوَ منها ونَعبُرَ إلى الحَياةِ الأبَدِيَّة.

ولِهَذِهِ الحِكمَةِ سِفرٌ كامِلٌ بِاسمِها في العَهدِ القَدِيم، حَيثُ نَقرأ في الإصحاحِ التَّاسعِ مِنه: "هَبْ لِي (يا رب) الْحِكْمَةَ الْجَالِسَةَ إِلَى عَرْشِكَ"، "عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَنِي الْبَشَرِ أَحَدٌ كَامِلٌ؛ فَمَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْكَ، لا يُحْسَبُ شَيْئًا" و"الْحِكْمَةُ هِيَ الَّتِي خَلَّصَتْ كُلَّ مَنْ أَرْضَاكَ، يَا رَبُّ".

وأَمامَ هَذِهِ الحِكمَةِ، لا بُدَّ لنا مِنِ إلقاء الضَّوءِ، بِشكلٍ مُوجَزٍ، على ما عُرِفَ في العَالَمِ اليُونانيّ القَديم، ولاحِقًا عِندَ الرُّومانِ، بالإدراك الكونيّ للأشياءِ المَنظورَةِ وغَيرِ المَنظورة، وهُوَ "الفُنونُ الليبراليّة Arts Libéraux"، الّتي باكتِسابِها يُصبِحُ الفردُ بالِغًا، ويكتَسِبُ الحِكمَةَ، وقُدُراتٍ فِكريَّةً عالِية، ويُصبِحُ، بِالتَّالِي، إنسانًا حُرًّا.

فكَلِمَةُ "ليبرَالي" تأتي مِن الحُريَّة، وهي طبعًا لا تَعني الفَوضَى والمِزاجِيَّةَ والتَّفرُّدَ، على العَكسِ تمَامًا، هِيَ التَّرتيبُ والتَّنظيمُ والإنتاجِيَّةُ والبِناءُ والنُّموّ في المُجتَمع. إنَّهُ العَملُ على بُنيانِ الإنسانِ الكامِلِ الّذي يُفكِّرُ ويَشعُرُ ويَتَطَوَّر ويُطَوِّر.

هَذِهِ الفُنونُ هِيَ سَبعَةُ موادَّ أساسِيَّةٍ على جُزأين: ثَلاثُ موادَّ Trivium تُعلِّمُ قُوّةَ التَّخاطُبِ والتَّواصُلِ، وذَلِكَ بِإتقَانِ اللُّغَةِ والتَّحليلِ المَنطقِيّ وحُسنِ الإقناع، مِن خِلالِ دِراسَةِ قَواعِدِ اللُّغَةِ وفَنِّ المُخاطَبَةِ والبَلاغَة؛ والموادُّ الأربعُ الأُخرىQuadrivium ، هي الحِسابُ والهَندسةُ وعِلمُ الفَلَكِ والمُوسِيقَى، وجَميعُها تتقاطَعُ وتتكامَلُ فيما بينَها.

هذا كُلُّهُ جيِّدٌ، فَالرَّبُّ خَلَقَ المَعرِفَةَ ودَعانا إلَيها، ولا يُريدُنا جُهَلاء. ولكن يَبقى أنَّ الأساسَ هو حِكمَتُه، وإلا تَحوَّلَتْ معرِفَتُنا إلى خِدمَةٍ لأهوائِنا الّتي غالِبًا ما تَكونُ مريضَةً. ومَن لَيسَ مَرِيضًا أَمامَ اللهِ الصَّحيحِ والكامِل؟.

خُلاصة

نَقرأُ في سِفرِ الأمثال: "الحِكْمَةُ بَنَتْ بَيْتَهَا. نَحَتَتْ أَعْمِدَتَهَا السَّبْعَةَ. ذَبَحَتْ ذَبْحَهَا. مَزَجَتْ خَمْرَهَا. أَيْضًا رَتَّبَتْ مَائِدَتَهَا". وأيضًا "هَلُمُّوا كُلُوا مِنْ طَعَامِي، وَاشْرَبُوا مِنَ الْخَمْرِ الَّتِي مَزَجْتُهَا. اُتْرُكُوا الْجَهَالاَتِ فَتَحْيَوْا، وَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الْفَهْمِ"(أم ١:٩).

هذا في العَهدِ القَديم، وفي العَهدِ الجَديدِ نقرأ في سِفرِ أعمالِ الرُّسُل، "فانتَخِبوا سَبْعَةَ رِجَال مَشْهُودًا لَهُمْ وَمَمْلُوِّينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَحِكْمَةٍ"(أع ٣:٦).

ما أبدَعَ هذا التَّكامُلَ بَينَ العَهدَينِ للحِكمَةِ الإلهيَّةِ المَملوءَةِ بِالرُّوحِ القُدُس، لِعَيشِ كَلِمَةِ اللهِ بِاستِقامَةٍ، والعُبورِ إلى أورشليمَ السَّماوِيَّة.

ألَيسَ "هُوَ" الحِكمَةَ، الّذي ذُبِحَ مِن أجلِنا، ودَعانا إلى مائدَتِهِ لنَتناوَلَ جسدَهُ ودمَهُ الكريمَينِ ونَغتَذِيَ منهما؟.

وهكذا في الأيقونةِ التي تحدَّثنا عنها نتذكَّرُ هذه الآية: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً"(إنجيل يوحنا ١٩:٣).

حكمتك يا رَبُّ. إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] H 84 cm; W 45.5 cm