تضاربت الآراء والتحليلات بشأن خلفيّات قرار رئيس الحُكومة السابق ​سعد الحريري​ العُزوف عن المُشاركة في الإنتخابات، والبعض عزاه إلى إعتبارات سياسيّة وماليّة داخليّة، والبعض الآخر عزاه إلى ضُغوط وأسباب خارجيّة، وهناك من رأى في القرار المَذكور مزيجًا من النقطتين السابقتين، وفئة رابعة إعتبرت أن قرار العُزوف جاء نتيجة مَعلومات بعدم حُصول الإنتخابات في المُستقبل القريب ومُحاولة لكسب العطف وإستجرار التدخلات العربيّة والدَوليّة، إلخ. لكن أبعد من كل ذلك، يتردّد خلف الكواليس أنّه يُوجد قرار خارجي خطير قد يكون وراء قرار الحريري بالتنحّي جانبًا، في المرحلة الراهنة. فما هو؟.

كان بوسع رئيس "تيّار المُستقبل" إختيار الطريق السهل، عبر قيادة تيّاره لخوض الإنتخابات المُقبلة، لأنّه وبغضّ النظر عن الحجم النيابي الذي ستخرج فيه كتلته بعد الإنتخابات، سيكون الحريري مُؤهّلا لإستكمال الحياة السياسيّة من النقطة التي كانت قد توقّفت عندها قبل سنوات، بمُجرّد أن وافق على ما عُرف بإسم "التسوية الرئاسيّة" وإنتخاب العماد ​ميشال عون​ رئيسًا للجمهوريّة. بمعنى آخر، كان بإمكانه المُضيّ قُدمًا بمشروع التعاون بين كلّ من "المُستقبل" و"الإشتراكي" و"أمل" والمردة" وآخرين، لإيصال الوزير السابق ​سليمان فرنجية​ إلى سُدّة الرئاسة، في الإنتخابات الرئاسيّة المُفترضة في الخريف المُقبل. وحتى لوّ فشل هذا المَشروع-لسبب أو لآخر، فإنّ الحريري كان قادرًا على إبقاء إسمه مَطروحًا لأن يرأس حُكومة العهد المُقبل، حتى لو كان إسم الرئيس هو غير فرنجية، أي مُطلق أي إسم سيتأتى نتيجة تسوية داخليّة بمظلّة خارجيّة، على غرار إسم قائد الجيش ​العماد جوزيف عون​ أو سواه.

لكنّ الحريري إختار التنحّي جانبًا، في خُطوة لا تقتصر إرتداداتها على الإنتخابات النيابيّة المُقبلة-إن حصلت، بل ستترك أبعادًا بعيدة المدى يُرجّح أن تستمرّ لسنوات عدّة. فرئيس "تيّار المُستقبل" لن يكون قادرًا على أن يكون المرجعيّة السنّية التي ستلجأ إليها القوى التقليديّة الداخليّة، لإستمرار حُكم "المَنظومة"، لأنّ خُطوته ستتسبّب بإضعاف "تيّار المُستقبل" بشكل كبير، وبولادة زعامات مناطقيّة عدّة، وبتشتّت مُربك في قيادات البيئة السُنّية.

يُذكر أنّه تُوجد خلف الكواليس نظريّة تقول إنّ قرار الحريري ناجم من مَعلومات خطيرة لديه، بأنّ قرار الذهاب حتى النهاية في مُواجهة "​حزب الله​" قد إتخذ على أعلى المُستويات، إقليميًا وأميركيًا، ما يعني أنّ المرحلة المُقبلة في ​لبنان​ ليست مرحلة تسوية، ليكون جزءًا من هذه التسوية، بل مرحلة مُواجهة شرسة لا يريد الحريري أن يكون رأس حربة فيها. بمعنى آخر، صفحة الإنهيار الحالي في لبنان لن تنتهي بحُصول الإنتخابات النيابيّة، وبإجراء إنتخابات رئاسيّة تفتح صفحة العهد الرئاسي المُقبل، بل هي ستستمرّ وتشتدّ بغضّ النظر عن النتائج التي سترسو عليها مُفاوضات "فيينّا"، بشأن "​الإتفاق النووي​" مع ​إيران​ في خلال الأسابيع وربما الأشهر القليلة المقبلة.

وفي المعلومات-ودائمًا وفق هذه النظريّة، إنّ قرار تصعيد المُواجهة مع "حزب الله" في لبنان سيشهد المزيد من التطبيق في المُستقبل، حيث لا مُساواة في هذا الموضوع في المرحلة المُقبلة، ولا لفلفة للمواضيع وفق أسلوب التمييع والشعارات الفارغة من المضمون والتهرّب من تنفيذ التعهّدات، كما كان يحصل في السابق. وبالتالي، لا يُمكن لرئيس الحُكومة اللبنانيّة المُقبلة أن يكون قادرًا على عقد التسويات الداخليّة وتدوير الزوايا، فإمّا يكون محسوبًا على محور "المُمانعة"، وإمّا يكون ضُدّ هذا المحور. وفترة السماح الخليجي للبنان، وخُصوصًا لرؤساء الحكومة فيه، إنتهت كليًا، وعليهم تبنّي الخُطاب السُعودي-الإماراتي ضُدّ "الحزب"، وإلا لن يحصلوا على أي غطاء سياسي أو مَعنوي من ​دول الخليج​. وكذلك الأمر بالنسبة إلى القوى الحزبيّة والتيّارات السياسيّة في لبنان، فإمّا هي مع "الحزب" أو ضدّه، وإما هي تعتبر نفسها جزءًا من النسيج العربي والخليجي وتدافع عن مصالحه، وإمّا هي مُنخرطة في المحور الإقليمي بقيادة إيران وتُدافع عن مصالح طهران.

وفي حال صحّت هذه النظريّة، فإنّ لبنان مُقبل على مطبّات سياسيّة غير سهلة على الإطلاق، بحيث سيكون مصير تنظيم الإنتخابات النيابيّة كلّه على المحك. وإن حصلت الإنتخابات النيابيّة، قد تفرز النتائج تيّارات وقوى مَقسومة بحدّة، بين من يُؤيّد سلاح "حزب الله" وبين من هو مُستعد لمُواجهته، سياسيًا وإعلاميًا ومَعنويًا، إلخ. وحتى بعد حُصول الإنتخابات النيابيّة، لن يكون من السهل التوافق على رئيس جديد للجمُهوريّة في ظلّ الإنقسام العامودي المُتوقّع، بحيث قد يدخل لبنان مُجدّدًا في حال من الفراغ الطويل. وإن حصل الفراغ، يعني أنّ الوضع المُتدهور في لبنان سيتواصل، وفرصة الإنقاذ ستضيع، علمًا أنّه في مُقابل أهداف تشذيب جوانح "حزب الله" في لبنان، يُخطّط هذا الأخير للفوز بأغلبيّة نيابيّة تُخوّله إحكام قبضته أكثر فأكثر على مزيد من مفاصل ​الدولة اللبنانية​، ما يعني أنّ المعركة مفتوحة على مصراعيها!.

في الختام، الأكيد أنّ الأمور في لبنان مَفتوحة على مُختلف الإحتمالات، والمُشكلة الكبرى أنّ ملفّ "حزب الله"، لم يعد ملفًّا داخليًا يُمكن التوصّل إلى حُلول بشأنه وفق الطريقة اللبنانية المَعهودة بتدوير الزوايا وبتأجيل المشاكل، وصار ملفًا إقليميًا-دوليًا مُتداخلا مع ملفّات المنطقة كلّها، الأمر الذي ربط الوضع اللبناني بجملة من الملفّات المُعقّدة والتي قد يستغرق حلّها سنوات طويلة، حتى لو جرى عقد تسوية جديدة بين الغرب وإيران في المُستقبل القريب.