اعلنها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بالفم الملآن وبشكل علني: تعليق العمل بالحياة السياسية (والسياسة بمفهومها التقليدي)، ليس له فقط، بل ايضاً لـ"عائلته في تيار "المستقبل". لم تكن الخطوة مفاجئة كلياً، وكانت الاثارة تخف ساعة تلو الاخرى منذ عودته الى بيروت، ولكن المفاجأة تمثلت بالقرار بذاته، فماذا يعني تعليق العمل بالسياسة بمهفومها التقليدي، وكيف سيصرف سعد الحريري تداعيات ونتائج هذا القرار؟.

بداية، من المنطقي والمتعارف عليه في كل دول العالم، انه بمجرد اعلان انسان ما تراجعه او عزوفه او اعتذاره عن شيء، يصبح أكثر قابلية لنيل التعاطف، اذ يبدو وكأنه "مكسور الخاطر" وفي لحظة ضعف، وهي لحظة تثير لدى الانسان الآخر، في العادة، رغبة كبيرة في التعاطف والمساندة. هذا من الناحية الانسانية، اما من النواحي الاخرى، لم يعلن سعد تخليه عن الحياة العامة والسياسية، فهو لا يزال نائباً في البرلمان ولم يستقل، فإن شاء ان يمارس مهامه البرلمانية املا، سيبقى حتى الانتخابات المقبلة نائباً مكتمل الحقوق من دون القيام بالواجبات. وهو عرف كيف يجعل الناس تطرح تساؤلاتها حول مستقبل بيت الوسط وما يمثل، اذ لم ينس ان يذكر كيف "وقع الاختيار" عليه لتولي المسؤولية بعد اغتيال والده كرئيس للحكومة، بمعنى انه يعيد شد لعصب من خلال احياء ذكرى والده في قلوب محبيه، والقول وكأنه يمثله حالياً وما يحصل معه وكأنه يحصل مع رفيق الحريري. الا ان سعد نسي و تناسى، ان هناك فرداً آخر من آل الحريري كان وقع الخيارعليه قبله لتولي المسؤولية وبفارق لحظات فقط من انتقال الإرث السياسي الى سعد، عنينا به شقيقه بهاء. فماذا لو دخل الأخير بالفعل الحياة السياسية وقرر حمل ارث والده السياسي؟ هل سيقبل سعد بذلك ويسلّم به؟ خصوصاً وان بهاء اظهر بشكل غير مباشر رغبة واضحة في هذا المجال، وهو يتحرك حالياً انسانياً واجتماعياً وحتى انتخابياً ليثبّت رجليه، مستفيداً من تعاطف بعض الدول الاقليمية وربما الدولية.

ولا يمكن ان ننسى ايضاً ان سعد اعترف بالاخطاء التي ارتبكها على مدار السنوات، معتبراً انه اراد دفع الثمن حرصاً على السلم الاهلي، ولكنه لم يكن موفقاً تماماً لان الاخطاء التي ارتكبها ليست هي التي منعت الحرب الاهلية، بل كانت تحمل له ولغيره المنفعة والافادة، وكان كل قرار يصدر عنه يحظى بدعم محلي (القوى التي كانت تستفيد بدورها من التسويات، فيما القوى الاخرى عارضت لانها كانت غير مستفيدة) واقليمي ودولي، ويقيناً لو لم يكن هناك ضوء اخضر خارجي لما كانت هذه القرارات ابصرت النور. وبالتالي، ادرك الحريري انه اليوم يدفع ثمن الاخطاء التي ارتكبها، ولكن ليس بسبب حرصه على السلم الاهلي، بل بسبب حرصه على ابقاء التسوية قائمة مع كل ما يعنيه ذلك من نتائج ايجابية له ولسواه. ستصدر اصوات طبعاً، تقول بأن خروج سعد يعني استباحة يد ايران وحزب الله في لبنان على غرار ما قاله رئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، ولكن للتذكير فقط فإن الحريري كان ولا يزال، على غرار جنبلاط نفسه، على اطيب واوثق العلاقات مع رئيس مجلس النواب نبيه بري وهو الحليف الاقرب لحزب الله وأحد ركني "الثنائي الشيعي" (الركن الثاني هو الحزب)، كما انه اعلى ما صدر عنه من مواقف ضد الحزب كان كلامياً، وحين تطورت المسألة الى نزاع في الشارع (7 ايار الشهير)، كانت التسوية الاقليمية والدولية قد نضجت وانخرط فيها الجميع من دون استثناء.

من المهم التفكير بقدرة سعد على العودة، في ظل عقبتين اساسيتين: غياب الدعم السعودي من جهة مع ما يمثله من ثقل طائفي، وغياب القدرات المالية الاساسية لاستعادة ما تم فقدانه على مدى الفترة الاخيرة. وهنا، يجب متابعة ما سيكون عليه موقف الامارات في هذا المجال، ومدى قدرتها على الدعم والتعويض، وما اذا كانت على استعداد للدخول في نزاع خفي مع السعودية على الارض اللبنانية، بعد تعثرها في دعم عودته الى السراي الكبير. وهنا يجب طرح سؤال مهم: اذا كان الشيخ سعد اقدم على خطوة الاستقالة رضوخاً لمطالب الناس، فما الذي طرأ للعمل بعدها بفترة قصيرة (وبدعم من الثنائي الشيعي) على ضمان اصوات النواب لتكليفه تشكيل الحكومة، وهو كان قاب قوسين او ادنى للدخول رسمياً الى السراي واستعادة لقب رئيس الحكومة الفعلي؟ فهل لو دخل السراي لاختلف الواقع والموقف والمشاعر؟.

من المؤكد ان سعد سينال تعاطفاً شعبياً، وهو سيعمد من دون شك الى استعادة ما فقده في السنوات الماضية، ولكن هذا لا يعني انه لم يشارك، مع غيره من المسؤولين، في ما وصل اليه لبنان، وهو سيعمد الى صرف هذا القرار عبر تعزيز حضوره الشعبي والجماهيري وتثبيت قاعدته بدعم اقليمي، بحيث يغيب عن هذه الدورة الانتخابية ولكنه يعمل ليكون حاضراً وبقوة في الدورة المقبلة.