الكاهن أب. أبوّته ليست منه. تأتي من الآب السماوي الذي أوكله بأبنائه. هو يعرف نفسه أنّه لا شيء. وما هو عليه هو نعمة أعطيت له. أبناء الرعيّة ينادونه "أبونا". بعضهم يسمّونه "محترم". لكن، ومن دون قصدٍ، يقصون عنه صفة الأبوّة. الكاهن أب لكل أبنائه في الرعيّة، ومن المفترض ألا يميّز بينهم في المحبة والاهتمام والرعاية.

يكون له بعضُ المقرّبين. مردُّ ذلك إلى التواصل اليومي بسبب من الخدمة. فالسيد المسيح رافقه بطرس ويعقوب ويوحنا في محطات كثيرة، فكم بالأحرى الكهنة الذين بحاجة إلى معاونين.

لا شيء يمنع أن يميّز بعضًا بالاهتمام، حسب ظرف كلّ شخص. فمنهم في أزمات صحيّة أو اجتماعيّة أو ماديّة. آخرون قد يعانون من حزن وألم، وبعضهم يلجأون إليه كمرشد وموّجه لضعفاتهم وخطاياهم. في هذه الحالات ينطبق عليه القول: "يحب الصغير ليكبر، والمريض ليشفى، والمسافر ليرجع". هكذا تتكوّن لدى الكاهن مشاعر تجاه أبنائه، شبيهة بمشاعر الأب والأم.

من البديهي أن يخاف الكاهن على أبنائه من الوقوع في الخطايا، كما يخاف عليهم من أوجاع الجسد، ولذلك يصلّي من أجل صحة النفس والجسد. يخرج من إطار عائلته الضيّق إلى مدى الرعية الأوسع، ولا يعد بعد سيامته متحزّبًا لعائلته وعشيرته والمنطقة التي ينتمي إليها، بل يصبح أبًا لأبناءٍ اوكله الروح القدس بهم.

يبذل الكاهن نفسه لأجل أبنائه، هذه رسالته. هذا دوره. إنه مدعوّ إلى أن يكون أمينًا على الوديعة التي أمّنه عليها الرب بوضع يد الأسقف على رأسه يوم سيامته. تبدأ رحلته الرعائية من تلك اللحظة وينطلق إلى الخدمة، لكي يكون غاسلًا لأرجل أبناء الرعيّة، وماسحًا لدموعهم، ومطيبًا لخاطرهم، ومساندًا لهم في الضيقات.

أنا لا أدّعي الكمال لدى الكهنة في حمل رسالتهم، لكن بالإجمال يسعون لهذه الخدمة المباركة. إلا أن الرعية يخرج منها أفرادٌ وجماعات يتنكّرون لأبوّة كاهنهم وما يبذله في سبيل خلاص النفوس الضعيفة. فمهما فعل الكاهن، وحتّى لو أضاء "أصابعه العشرة"، سيخرج من الرعيّة أناسٌ يلومونه ويتنكّرون له، علمًا أن الكهنة لا ينتظرون شكرًا ومدحًا من البشر، إنما من سيّدهم الذين هم خدم لعرشه السماوي وليسوا بموظفين عند أحدٍ من الرعية.

يكفي الكاهن نعمة أنه سيُذكر في كلّ قداس بعد انتقاله إلى الأخدار السماويّة، بمجرد أن يلفظ خَلَفُه عبارة: "المطوّبين الدائمي الذكر الذين عمّروا هذا الهيكل المقدّس والذين سبقت لهم الخدمة فيه من كهنة وعلمانيّين".

إلا أن الكاهن يبقى من البشر، رغم سعيه وجهاده الروحي الدائمين ليتخطى بشريته. ولذلك يعتب، يعتب بمحبّة على الذين أظهر لهم محبة واهتمام مميّزين، وهم في نفس الوقت لا يبادلونه السؤال بجواب، أو الاتصال باتصال. كما أنهم يتنكرون له كلّ محبة أظهرها لهم وترجمها أفعالًا، عند أي غلطة صغيرة يرتكبها. ويحضرني في هذه الأسطر ما قاله الرب للبرص بعد شفائهم: "فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: "أَلَيْسَ الْعَشَرَةُ قَدْ طَهَرُوا؟ فَأَيْنَ التِّسْعَةُ؟ أَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَرْجِعُ لِيُعْطِيَ مَجْدًا للهِ غَيْرُ هذَا الْغَرِيبِ الْجِنْسِ"؟(لوقا 17: 17-18). إنها من المرّات القليلة في الإنجيل حيث يشير الرب يسوع إلى موضوع تقديم الشكر بهذا الوضوح.

لست في هذه المقالة داعيًا إلى أن يبادر الناس لشكر الكاهن ليلًا ونهارًا على واجبه، إنما لا تبادرون إلى شكره، وبنفس الوقت تستغلّون تقصيرًا ما لكي توجّهوا سهامكم نحوه. ولكن طوبى للكهنة اذا عيّرهم الناس واضطهدوهم وقالوا عنهم كل كلمة شرّ لأجل مجد الرب.

الكاهن لا يطلب مدحًا أو مجدًا من بشر، كلّ ما يطلبه أن يرى أبناءه في الكنيسة، كما ينتظر أن يسمع أصوات أبنائه الذين يحبهم ويرعاهم ويهتم بهم ويصلّي لأجلهم، سيّما أولئك الذين على تماس وإياهم بشكلٍ دائم. الكاهن مدعو أن يكون على مثال معلّمه الذي قال: "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ"(يوحنا ١٠ : ١١)، فمن المفترض على الرعية أن تعرف راعيها وتسلك وراءه. فالراعي الصالح لا ينعس ولا ينام في سبيل خلاص رعيته، ولا تتشتت طالما الراعي معها، ولا تنجرّ وراء أشخاص يدّعون "التبشير"، والرعاية منهم براء.

الكهنة لا يعتبون على الناس ولا يزعلون منهم، إنما يزعلون عليهم لأجل خلاص أنفسهم. حتى لو سأل الكاهن مرارًا وتكرارًا عن أبنائه في الرعية واستفقدهم ولم يتلقَ كلمة منهم، فمن المؤكد والطبيعي ألا يزعل منهم، بل هم باقون في صلواته وأدعيته، وسرّهم سيبقى حاملًا له حتى مماته.

بالمقابل كما أن الأب يفرح بأولاده عندما يجتمعون معه يوم الأحد على مائدة واحدة، هكذا الكاهن يفرح بأبنائه في الرعية، عندما يكسرون الخبز السماوي سويًا يوم الأحد في كلّ قداس إلهي.

هناك عملٌ شاق في مسيرة الكهنة، خاصّة في أوضاع مثل التي نعيشها في لبنان والمنطقة، والتحدّي على مصراعيه، لذلك وجب علينا نحن الكهنة أن نتمم كلّ برٍ في سبيل خلاص شعب الله، الذي مات المسيح عنه. مدعوون بقوة أن نسند أبناءنا على كافة الأصعدة والمستويات، وألا تأتي العثرات على أيدينا، ولا ننتظر أجرًا من أحد، لأن الله كريم جوّاد.

بهذا أوصيكم أن لا تتأخروا عن التواصل والتفاعل مع كاهنكم، لكي يكون التواصل مبارك بين الراعي والرعية، حتى لا تتعثر الخدمة، ونكون جميعًا لله أمناء.