"الرَّبُّ رَجُلُ الْحَرْبِ. الرَّبُّ اسْمُهُ". يُفاجَأ الإنسانُ للوَهلَةِ الأُولى بِهذِهِ الآيَةِ مِن نَشيدِ الظَّفرِ الّذي رَنَّمَهُ مُوسى والشَّعبُ بعدَ عُبورِهِم البَحرَ الأحمر، وغَرَقِ فِرعونَ وجَيشِه فيه (خروج ١٥:٣).

وهذا العُبورُ مِنَ العُبودِيَّةِ إلى الحُريَّةِ، شَكَّلَ المِفصَلَ الحَيويَّ لَهم، وصُورَةً نُرَنِّمُها، نحنُ المَسيحيّين، في الليتُورجِيَّة فنقُول: "إنَّ مُوسى لَمّا رَسَمَ الصَّليبَ، ضَرَبَ بالعَصا مُسْتَويَةً فَشَقَّ البَحْرَ الأحْمَرَ، وأجازَ إسْرائيلَ ماشيًا. ولَمّا ضَرَبَهُ مُخالِفاً، ضَمَّهُ على فِرْعَوْنَ ومَرْكَباتِهِ، مُمَثِّلاً بِصَراحةٍ السِّلاحَ غَيْرَ المَقْهورَ. لِذلِكَ نُسَبِّحُ المَسيحَ إلهَنا لأنَّهُ قَدْ تَمَجَّدَ"[1].

وإذا وَضعنا هَذِهِ الجُمَلَ الثَّلاثَ مَعًا: "الرَّبُّ رَجُلُ الْحَرْبِ"، و"السِّلاحَ غَيْرَ المَقْهورَ"، و"نُسَبِّحُ المَسيحَ إلهَنا"، وأضفنا إليها ما نُرَدِّدُه في صَلواتِنا "الفِرعونَ العَقليّ"، لاتَّضَحَ لنا أنَّ حربَنا هِيَ ضِدُّ الشَّيطانِ الّذي إذا تَحالَفْنا مَعَه، وخَضَعنا له، وتَشارَكنا شَرَّهُ، نُدَمِّرُ ذَواتِنا وعائِلَاتِنا ومُجتَمَعَنا ووطَنَنا، ولا خَلاصَ لنا إلّا بِالمَسيحِ يَسوعَ الغَالِبِ والمُنتَصِرِ، إن صَحَّحنا بِصِدقٍ اعوِجَاجَنا، وإلّا فإنَّنا سَنَغرَقُ في عُمقِ أعمَاقِ بَحرِ خَطايَانا.

وتتَّضِحُ الصُّورةُ بِشَكلٍ جليٍّ في قانونِ القِدّيسِ أندراوسَ الكريتي (قرن ٧م)، الّذي نتلوهُ في فَترَةِ الصَّومِ الأربَعينيّ المُقَدَّسِ، إذ يَقُولُ: "أيُّها السَّيّدُ! إنَّني قد حَصَلتُ ثَقيلَ العَزمِ، وغَرَّقتُ نَفسي وجِسمي وعَقلي كما غَرِقَ فِرعونُ المُرُّ بِواسِطَةِ ينيس ويامبريس، لكن اعْضُدْني".

إذًا خَلاصُنا هُوَ الأساسُ والهَدفُ في كُلِّ المَسارِ الخَلاصيّ الإلهيّ مُنذُ بَدءِ التَّكوينِ وخَلقِ الإنسان، وذَلِكَ بِالابتِعادِ عن أضالِيلِ الشَّيطانِ وعَدَمِ الإصغَاءِ لأكاذِيبِهِ المُهلِكَة.

ولا فَرقَ بينَ أعمالِ الشَّيطانِ في العَهدَينِ القَديمِ والجَدِيد، وفِي كُلِّ العُهودِ، مِن هُنا مَثلًا، يَذكُرُ بُولسُ الرَّسولُ في رِسالَتِهِ إلى تِلميذِهِ تيموتاوس، وهُوَ يُحَذِّرُهُ مِنَ المُعلِّمينَ الشّيطانِيّينَ، يذكُرُ عَرّافَيّ فِرعَونَ الكاذِبَينِ مُقاوِمَي الحَقِّ "ينيس ويامبريس"، فيقُولُ "وَكَمَا قَاوَمَ يَنِّيسُ وَيَمْبِرِيسُ مُوسَى، كَذلِكَ هؤُلاَءِ أَيْضًا يُقَاوِمُونَ الْحَقَّ. أُنَاسٌ فَاسِدَةٌ أَذْهَانُهُمْ، وَمِنْ جِهَةِ الإِيمَانِ مَرْفُوضُونَ" (٢ تي ٨:٣).

وجاءَ كلامُ بُولسَ ضِدَّ أُناسٍ يَنسُبونَ لأنفُسِهم التَّعليمَ الصَّحيحَ،واصِفًا إيَّاهُم بـ"النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِون"، إذ كانُوا يَدخُلُون المَنازِلَ ويَغُشُّونَ النَّاسَ بِتَعالِيمَ كاذِبَةٍ مِن أَجلِ مَصالِحِهم الخَاصَّة، وكان يَنتهي الأمرُ بِخرابِ المَنزلِ وسُكّانِه.

ولا يَنحَصِرُ لَومُ الرَّسولِ بِالمُخادِعِينَ فَقط، بل أَيضًا بِالّذينَ يَفتَحُونَ لَهُم أَبوابَ بُيوتِهِم مِن دُونِ أيِّ حِكمَةٍ وتَمييز، وذَلِكَ لأنَّهُم في الأَساسِ، هُم أَيضًا، يُفَضِّلونَ البَاطِلَ على الحَقّ تَحقِيقًا لِرَغبَاتِ شَهواتِهِم السَّاقِطَةِ، فأصبَحَ اصطِيادُهُم سَهلًا بِالوُعُودِ الكاذِبَةِ إذ أَضحَوا حَمقى.

ويَقولُ القدّيسُ يُوحنّا الذَّهبيُّ الفمِ في ذَلِكَ: "يُقيمُ الشَّيطانُ الضَّلالَ على الدَّوامِ في مُقابِلِ الحَق. فإن كان قد عَجِزَ عن تَقديمِ عَملٍ، قَدَّمَ وُعُودًا هِيَ كَلِماتٌ، وهَذِهِ هي طَبيعَةُ المُخادِعين".

هَذا كُلُّهُ يُؤكِّدُ أنَّنا في حَربٍ ضَروسٍ ما دُمنا على قَيدِ الحَياة، وسَتبقى هَذِهِ الحَربُ ضِدَّ الحَقِّ قَائِمةً إلى اليَومِ الأخِير، "وَلكِنِ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ"(متى ٢٤:١٣).

وَبالعَودَةِ إلى النَّشيدِ أعلاه، نَجِدُ صَداهُ مَعَ سِمعانَ الشَّيخِ عِندمَا صَعِدَتْ مريَمُ إلى الهَيكَلِ مَعَ يُوسفَ ومَولودِها الإلَهِيّ، وكانَ اللِّقاءُ العَظيمُ بينَ المُخلِّصِ وسِمعانَ، الّذي قَالَ عِندمَا حَمَلَ الرَّبَّ يَسوعَ على ذِراعَيه: "الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَك" (لوقا ٢٨:٢-٣٢). فأتَى كَلامُ الشَّيخِ نَشيدَ عُبورٍ وظَفَرٍ وانتِصارٍ وغَلَبَة.

سِمعانُ الشَّيخُ نَاضَلَ وجَاهَدَ وقاوَمَ مُقاوَمَةَ الجُنديّ الأَصيل، فنَالَ الوَعدَ بِأن يَرى السيِّدَ قبلَ أن "يَنطَلِق". لم يُصغِ إلى أضاليلِ المُعلِّمينَ الكَذَبَةِ، بل جَاهَدَ إلى آخِرِ رَمَقٍ، فَدَخَلَ نَشيدُهُ حياةَ المُؤمِنينَ، ونَحنُ نُرتِّلُهُ في كُلِّ صَلاةِ غُروبٍ، طالِبينَ خَلاصَ اللهِ وغَلَبَتَه.

قَديمًا، في الأَلعابِ الأولمبِيَّةِ عِندَ الإغرِيقِ، والّتي بَدأت في القَرنِ الثَّامِنِ قَبلَ المِيلادِ، كانَ مِن بَينِ جَوائِزِ الفَائزِينَ في المُبارَزاتِ لمُناسَبَةِ أَعيادِ الآلِهَة، تِمثالٌ للمُنتَصِرِ، وَقَصيدَةٌ أو نَشيدٌ تَمجيدًا لانتِصارِه، ودُعِيَ هَذا النَّوعُ مِنَ الأَدَبِ Epinikion[2]. مِن أشهَرِ الشُّعراءِ في هَذا المِضمار Pindare[3] الإغريقيّ، الّذي اشتُهِرَ بِبلاغتِهِ، وبِالصُّوَرِ الشِّعريَّةِ الّتي تَدعَمُ قَصيدَتَه، وقد وَصَفَها بِنَفسِهِ بِأنَّها كانَت تَتَنَقَّلُ بينَ الصُّوَرِ كالنَّحلَةِ من زَهرَةٍ إلى أُخرى. وقَد رَقَدَ عن عُمرٍ يُناهِزُ الـ٨٤ سنةً، بينَما كانَ يُلقِي إحدَى قَصائِدِهِ الشَّهيرَةِ عَن أثينا.

كانت هَذِهِ الأناشِيدُ والقَصائِدُ تُلَحَّنُ وتُنْشَدُ في استِقبالِ الفائِزينَ لدى عَودَتِهم إلى دِيارِهم. وكَانت كلِماتُ هَذِهِ القَصائِدِ تَمدَحُ الفائِزَ، وتُمَجِّدُ عائِلَتَهُ ونَسبَهُ وبَلدَتَهُ الأّمّ، وآلِهَتَهُ الّذينَ وَهبُوه هَذا الانتِصار.

وقَد وجَدَ الآباءُ المُدافِعونَ في الكَنيسَةِ، أنَّ كُلَّ هَذِهِ القَصائِدِ، وإن كانت مُوَجَّهةً إلى آلِهَةٍ وَثنِيَّة، إلاّ أنَّها بَحثٌ عنِ الانتِصارِ الحَقيقِيّ بِالمَسيحِ مُخَلِّصِنا، فَنَجِدُ مَثلًا القِدّيسَ كِليمنضُسَ الإسكَندَريّ (١٥٠-٢١٥م)، يَذكُرُ أبياتًا مِنPindare، كانت مُوَجَّهةً للإلَهِ الإغرِيقيّ زيوس، فَيُطبِّقُها على المَسيح: "سَعيدٌ لِمَن رَأى هَذا (الانتِصارَ) قَبلَ النُّزولِ تَحتَ الأرض: إنَّهُ يَعرِفُ ما هِيَ نِهايَةُ حَياتِنا، وما هُوَ مَبدأُها الَّذي قَدَّمَهُ زيوس".

كَذلكَ كانَ Pindare وغيرُهُ مِنَ الفَلاسِفَةِ والعُلماءِ، أمثال Pythagore[4]، يُشدِّدُونَ على اكتِسابِ فَضائلِ الصِّدقِ والنُّبلِ والأخلاقِ في كِتاباتِهِم وتَعالِيمِهم، للتَّقرُّبِ مِنَ الآلِهَةِ، والحُصولِ على الفَرحِ الدَّائِم، وهَذِهِ أيضًا مَسيراتٌ نَحوَ النُّورِ الّذي تَحقَّقَ بِالمَسيح.

إذًا جائِزَتُنا الكُبرى، نَحنُ المَسيحيّينَ، هِيَ الغَلبَةُ في المَسيحِ ومَعَه، وهِيَ تُمنَحُ للمُتَمَسِّكِ بِطَريقِ الحَقِّ الّذي هُوَ المَسيحُ مَهما اشتَدَّت ضَراوَةُ المَعرَكَةِ وشراسَتُها. ولِهذا، كَثيرًا ما نَرى في الكَنِيسَةِ هَذِهِ الأحرُفَ اليُونَانِيَّةَ الأربَعَةَ NIKA وفي وَسَطِها صَليبٌ، وهيَ تَعني "النَّصرَ"، وتُشيرُ إلى انتِصارِ المَسيحِ على الخَطِيئَةِ والمَوتِ والشَّيطان.

فَخلاصُ الرَّبِّ الّذي أَعلَنَهُ سِمعانُ في نَشيدِهِ، والّذي هُوَ "نُور إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ"، كان جَوابًا لِكُلِّ مَنِ اشتَهى الحِكمَةَ والصِّدقَ وكُلَّ الفَضائِل. هذا وَجهٌ من عِيدِ دُخولِ السيِّدِ إلى الهَيكَلِ، الّذي نُعيِّدُهُ في ٢ شباط.

فاجعَلْنا يا رَبُّ مُستقِيمِينَ كما أَنشدَ Pindare: "يا مبدأ الفَضيلَةِ العَظيمَة والحَقيقَةِ، أيُّها المَلِكُ، لا تَدَعْ كَلِماتي تَتَعثَّرُ أَبدًا في مَأزِقِ الأَكاذِيب[5]". إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] كاطافاسيّات الصليب

[2]Épinicie

[3](518-438 BC)

[4])580-495 BC)

[5]« Principe de grandevertu, Vérité, ô Souveraine, fais que jamais mon propos n'achoppe contre l'écueil du mensonge 52 ! ».Pindare, fragment 205 ;voiraussi le vers 36 de la VIIIeNéméenne.