مع إعلان رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​ انسحابه "المرحلي" من الحياة السياسية، وإحجامه عن خوض ​الانتخابات النيابية​ المقرّرة في شهر أيار المقبل، سرت تكهنّات وشائعات عن احتمال "تبنّي" العديد من الأفرقاء هذا الخيار، بما يمهّد ربما لـ"تطيير" الاستحقاق عن بكرة أبيه، بحجّة "المقاطعة الواسعة"، إضافة إلى "الميثاقية".

قيل إنّ القوى السنّية الوازنة "ستلحق" بالحريري، الذي كان قد سبقه رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام إلى خيار "المقاطعة"، على أن يتبعهما رئيس الحكومة الحالي نجيب ميقاتي، وفق بعض التسريبات، ولو أنّ الأخير الذي يقول إنّه حسم قراره، إلا أنّه يترك إعلانه للوقت المناسب، أكد أنّ الانتخابات ستجري في موعدها، وأنّه لن تكون هناك مقاطعة لها.

قيل أيضًا إنّ "الحليف التاريخي" لتيار "المستقبل"، رغم الاختلافات التي تظهر بين الفينة والأخرى، رئيس "​الحزب التقدمي الاشتراكي​" ​وليد جنبلاط​ سيكون "التالي" على لائحة المقاطعة، لاعتبارات وأسباب عديدة، تتجاوز بعد "التعاطف والتضامن" مع الحريري، لتشمل "الخسائر المتوقعة" بعدما كانت أصوات "المستقبل" تشكّل "رافعة" للوائحه.

لكن، خلافًا لكلّ ما قيل ويُقال وسيُقال، حسم "البيك" أمره، فأعلن أنّه سيخوض الانتخابات النيابية المقبلة، معتبرًا أنّ للحريري ظروفه "الخاصة جدًا"، بما يعني أنّها لا تنطبق عليه، بل ربما أنّ مقاطعته ليست "موقفًا احتجاجيًا" في السياسة، كما تمّ تصويره، فكيف يستعدّ جنبلاط للمعركة المُنتظَرة؟ وأيّ "سيناريوهات" تنتظره، في ظلّ غياب الحليف "المستقبليّ"؟.

يقول العارفون إنّ جنبلاط درس كلّ الخيارات المُتاحة أمامه قبل أن يدلي بدلوه. لا شكّ أن فكرة "المقاطعة" كانت بين هذه الخيارات، خصوصًا أنّ المعركة بالنسبة إليه لا تبدو "رابحة"، فإمّا يحافظ على حجمه الحاليّ في مجلس النواب، وإما يخسر بعض المقاعد، وهو ما ترجّحه معظم الدراسات والتقديرات، لاعتبارات عدّة من بينها خروج تيار "المستقبل" من المعركة، مع التأثير الذي سيتركه ذلك على "الاشتراكي"، خصوصًا في المناطق المختلطة كالإقليم والشوف.

لكنّ الاعتبارات "الانتخابية"، في ميزان "الاشتراكي"، لا تقف عند حدود خروج "المستقبل" من المشهد، بل تشمل أيضًا التغيّرات التي طرأت على الساحة اللبنانية منذ حراك "17 تشرين" الشهير، وصولاً إلى الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة التي بلغت ذروتها في العامين الماضيين، وأدّت إلى تكريس صورة نمطية "مناهضة" للقوى والأحزاب التقليدية، التي يشكّل "البيك"، شاء أم أبى، أحد أبرز "رموزها".

إلى ذلك، ثمّة أيضًا بعض التغيّرات التي "تُقلِق" جنبلاط درزيًا، فعلى الرغم من أنّ "زعامته" تبدو مكرَّسة ولا غبار عليها، إلا أنّ تغيّرًا طرأ على "البيت الدرزي"، قد ينعكس عليه، بفعل القانون الانتخابي الحالي وتعقيداته. فـ"خصوم" جنبلاط التاريخيون باتوا "حلفاء"، وتحديدًا رئيس حزب "التوحيد العربي" وئام وهاب ورئيس "الحزب الديمقراطي" طلال أرسلان، ما يعني أنّهم قد يخوضون المعركة "متحالفين"، ما يعزّز حظوظهم بـ"الخرق".

لكن، رغم كلّ هذه الاعتبارات التي قد لا تميل لصالح جنبلاط، وجد "البيك" أنّه "مجبور" على المضيّ في المعركة، "مهما كان الثمن"، لأنّ المقابل سيكون "إقفال باب المختارة"، وهو ما لا يبدو واردًا في حساباته على الإطلاق، ولا سيما أنّه "نقيض" الخط الذي انتهجه على مدى السنوات، والذي دفعه إلى "توريث" مقعده النيابي، وربما الزعامة في وقت لاحق، إلى نجله تيمور، رغم غياب "حماس" الأخير، وذلك حفاظًا على "الإرث التاريخي".

هكذا، وجد جنبلاط أنّ خوض الانتخابات ليس "خيارًا" بالنسبة إليه، طالما أنّ احتمال إجراء الانتخابات موجود، مهما كبر أو صغر، ربما لأنّ المختارة ليست ​بيت الوسط​، وربما لأنّ ما راكمه على مدى السنوات لا يمكن أن "يضيع" بهذه البساطة، فخسارة بعض المقاعد تبقى "أهوَن" عليه من الانسحاب، الذي سيكون في قاموسه وفي ميزان أنصاره "هزيمة كاملة الأوصاف"، مهما حاول البعض "تلوينها" بالموقف السياسيّ أو غيره.

إزاء ذلك، سارع جنبلاط إلى "التموضع" انتخابيًا، بما يتيح له خوض الاستحقاق "بالتي هي أحسن"، إن جاز التعبير. يقول "البيك" إنّه سيخوض المعركة بالحدّ الأدنى من التحالفات الانتخابية "الواقعية"، مشيرًا بذلك إلى "القوات اللبنانية" وبعض الشخصيات "المستقلّة"، التي سيسعى من خلالها لتعويض غياب "المستقبل"، وربما التقرّب من "الحراك الشعبي"، والقول إنّه "يمدّ يده" إلى "الجيل الجديد".

في السياسة، يُفهَم "تموْضع" جنبلاط بوضوح، لا مع "القوات" التي لا تربطه بها علاقات "متينة" بعيدًا عن الانتخابات، بل ضدّ محور "حزب الله". لعلّه بذلك يلبّي "رغبة" الرعاة الإقليميين، وتحديدًا السعودية، كما يقول بعض العارفين، بعدما بات رئيس حزب "القوات" سمير جعجع "رَجُلها الأول" في لبنان، وهو ما دفع الحريري إلى "الاعتكاف"، بعدما كان مُطالَبًا بالتحالف الانتخابي معه، وهو الذي لم يستطع "تجاوز" خلافاته معه، منذ استقالته الشهيرة والمتلبسة من الرياض، التي كان جعجع أكثر "المهلّلين" لها.

لعلّ هذا "التموضع" أيضًا ما يفسّر "تصويب" جنبلاط المكثّف في الآونة الأخيرة على "حزب الله" و"العهد"، بعد "هدنة غير معلنة" استمرّت أشهرًا. يقول البعض إنّه تموضع "انتخابي" بالدرجة الأولى، خصوصًا أنّ مصلحة جنبلاط تبقى في مواجهة "السلطة"، ولو كن على الدوام "جزءًا أصيلاً" منها، ويعتقد آخرون أنّه "تنفيذ للأجندة الخليجية" المائلة نحو "التصعيد"، بدليل ما وُصِفت بـ"المبادرة الكويتية" التي نصّت على نزع سلاح "حزب الله".

لكن، بين هذا وذاك، يربط كثيرون الأمر بـ"فنّ" لطالما أجاده جنبلاط، ألا وهو "استشراف الآتي"، وهي ميزة "يحسدها" عليه كثيرون ممّن يتحدّثون عن "أنتيناته" العابرة للحدود، "أنتينات" يقول بعض آخر إنّها لم تعد تعمل، بدليل "الارتباك" الذي وصل إليه الرجل، وهو الذي لا يبدو في أحسن أحواله اليوم، وهو يتطلّع إلى انتخابات قد يكون أفضل ما "تفرزه" بالنسبة إليه، هو أن تحفظ "حجمه" من دون تغيير!.