مَعَ نِهايةِ القَرنِ العِشرينَ وبِدايةِ القَرنِ الواحِدِ والعِشرين، تَبدَّلَ الكثيرُ مِنَ المَبادِئ، والقِيَمِ والمَعاييرِ الاجتِماعيَّةِ، والطرُقِ التي تَتعلَّقُ بالإنسانِ والمُجتَمَع. ولَكن بالمُقابِل، يَبقى الإنسانُ كُتلَةَ مَشاعِرَ وأَحاسيسَ، ويَتفاعَلُ مَعَ مُحيطِهِ، ويَتأثَّرُ بما حَولَهُ، إيجَابًا وسَلبًا، فَلِكُلِّ عصرٍ حَسناتُه وسَيّئاتُه.

قَد تَتَبايَنُ العَواقِبُ بَينَ مُجتَمَعٍ وآخَرَ، وبَينَ إنسانٍ وآخَر.

لا يَتَعَجَبنَّ أحدٌ إن قُلنَا إنَّ القِيمةَ الحَقِيقيَّةَ للإنسانِ أُعلِنَت مُنذُ زَمَنٍ بَعيد، والسَّبيلَ للمُحافَظَةِ على إنسانيَّةِ الإنسانِ وخَلاصِهِ، أيضًا أُعلِنا مُنذُ زمنٍ بعيد، وهذا الخَلاصُ جَديدٌ دومًا، لا يَبطُلُ ولا يَتخطَّاهُ زَمنٌ ولا تَطَوُّرٌ تِكنولُوجيّ إطلاقًا، لأنَّ منبَعَهُ إلهيٌّ، والمُخَلِّصُ "هُوَ هُوَ" أَمسِ واليَومَ وغَدًا.

وَالمِحورُ الجَوهَرِيُّ هُوَ إيجَادُ الطَّريقِ الصَّحيحِ لِسُلوكِه.

هُنا نَطرَحُ على أَنفُسِنا السُّؤالَ التَّالي: أيَّ طَريقٍ نَسلُكُ في حَياتِنَا؟.

طَبعًا ليس المَقصودُ هُنا دَربَ عَملِنا أو مَنزِلنا أو أيِّ مَكانٍ آخر، بَلِ المَقصُودُ طَريقَةُ تَفكِيرِنا، وتَصرُّفِنا وأخلاقِنا أي مَسلكِيَّتِنا، وهَذا ما نُسَمّيهِ بِلُغَتِنا اللّاهُوتِيَّةِ "قَلبُنا"، فالرَّبُّ منذُ البَدءِ يُخاطِبُنا بِشَكلٍ مُباشَرٍ قائِلًا: "يَا ابْنِي أَعْطِنِي قَلْبَكَ، وَلْتُلاَحِظْ عَيْنَاكَ طُرُقِي"(الأمثال ٢٦:٢٣)، وقد بَلَغَتْ هَذِهِ الآيةُ معانِيها بِقَولِ المُخَلِّصِ "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ"(يوحنا ٦:١٤).

في آيةِ سِفرِ الأمثالِ نُلاحِظُ التَّرابُطَ الكَبيرَ، والعَلاقَةَ بَينَ قَلبِ الإنسَانِ وَبَصِيرَتِهِ لِتَلَمُّسِ طريقِ الله، فإن كانَ قلبُنا مَعَ اللهِ نَسلُكُ طَريقَهُ، والعَكسُ الهَلاكُ، وهَذا تَحديدًا ما نُعبِّرُ عنهُ بِالقَولِ الشَّعبيَ عَمَّن يَضِلُّ طَريقَ الحَقّ، نَقول: "كان معمي عقلبو".

وأَستَعرِضُ، في هَذا السِّياقِ، مَا كتَبَهُ الفَيلسوفُ الألمانيُّ الشَّهيرُ فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche[1]`، في كِتابِهِ الشَّهير Ainsi parlait Zarathoustra "هكذا تَكلَّمَ زرادشت": "لقد تَوصَّلتُ إلى حَقيقَتي بِطُرُقٍ عِدَّة: لَم أتَسلَّقَ سُلَّمًا واحِدًا حَيثُ يَضيعُ نَظري في الأُفُق. وغَالِبًا ما بَحثتُ عَن طريقِي عَلى مَضَضٍ، وبِعكسِ اتِّجاهِ قَلبي، وكانَتِ الطُّرُقُ تُعاكِسُني. وقد فَضَّلتُ دائِمًا التَّساؤُلَ وتَجرِبَةَ المَسارَات.

المُحاوَلَةُ والتَّساؤُلُ، كانا مَنهَجي. وفي الحَقِيقَةِ، على المَرءِ أن يَتعَلَّمَ الإجابَةَ على أسئلَةٍ كَهَذِه! فَهذا هُوُ ذَوقِي: إنَّهُ ليسَ ذَوقًا جَيِّدًا أو سيّئًا، ولكِنَّهُ ذَوقي الّذي لا أَخجَلُ بِهِ ولا أُخفِي نَفسي.

هذا هُوَ طَريقِي الآنَ-فأينَ طَريقُكَ؟ أَجَبتُ مَن سَألَنِي عَنِ الطَّريقِ، لأنَّ الطَّريقَ غيرُ مَوجُود".

هَذا النَّصُّ بالنِّسبَةِ لبَعضِ دارِسيهِ يُعتَبَرُ كافِيًا لِرَفضِ "نيتشه" أو حَتَّى إدانتِه. بِينَما بالنِّسبَةِ للبَعضِ الآخَرِ سبيلٌ للثَّناءِ على نيتشه.

ولكن مَن يَتَعَمَّقُ في أبحاثِهِ وقراءَاتِه، ولا يَتوقَّفُ عِندَ سَطحِيَّةِ الأُمُورِ، يُصبِحُ على بَيِّنَةٍ مِن خَلفِيَّةِ ما يقرأ، ومِن فِكرِ كاتِبِهِ وظُرُوفِهِ وحَياتِهِ وتَفاعُلِه، وكُلِّ ما يَتعلَّقُ بِه، وبِمُحيطِهِ وبِعَصرِهِ، ويَصلُ إلى المَقصَدِ الحَقيقيّ مِن أيّ نَصٍّ وقَول.

وأَسمحُ لِنَفسي أن أَزِيدَ أمرًا، فَمَن يَقرأُ على ضَوءِ الإنجيلِ الأُمورَ الّتي تَتعَلَّقُ بِالإنسانِ والأبحَاثِ الفَلسَفِيَّةِ، يَصُحُّ فيه قَولُ القِدّيسِ بَاسِيليوسَ الكبيرِ "يَنتَقي المَسيحيُّ في هَذا الكَونِ مِن كُلِّ زَهرةٍ عَبيرَها".

وأيضًا، إن وَجَدَ ما يَقرَأُهُ غيرَ مُكتَمِلٍ أو حَتّى يُعاكِسُ إنجيلَهُ، يُكَمِّلُ ويُوضِحُ بِهدفِ خَلاصِ النُّفوسِ ومَعرِفَةِ الحَقيقَةِ الكامِلَةِ الّتي هِيَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح، ولا يُساوِمُ على حَقيقَةِ المَسيحِ إذِ الحَقيقَةُ بِالنِّسبَةِ للمَسيحِيّينَ ليسَتْ عُصارَةَ فِكرٍ أو استِنتاجًا، بَل شخصٌ، وهُنا تَمامًا يظهَرُ الخَطأُ التَّاريخيّ الّذي وَقَعَ فيهِ بيلاطُسُ البُنطيّ، وكُلٌّ مِنّا مُعَرَّضٌ أن يَقَعَ فيهِ أيضًا، وهُوَ سُؤالُهُ لِيَسوعَ "مَا هُوَ الْحَقُّ؟"(يوحنا ٣٧:١٨)، إذ كان الأجدى بِهِ أن يَسألَهُ "مَن هُوَ الحَقّ؟".

بِالعَودَةِ إلى ما كَتَبَهُ نيتشه، هُناكَ ثَلاثُ نِقاطٍ تَتناوَلُها هَذِهِ المَقالَة:

أوّلًا، " لَقد تَوصَّلتُ إلى حَقيقَتِي"[2]. وَاضِحٌ في قَولِهِ: "حَقيقَتُهُ" ولَيسَ الحَقيقَة. فَكَم مِن مَرَّةٍ نَتشبَّثُ بِأمرِ أو بِفِكرٍ ونَعتَبِرُهُ حَقيقَةً وهُوَ عَكسُ ما نَظُنُّ؟ ونَدّعي المَعرِفَةَ بَينما يَنقُصُنا الكَثيرُ لِبُلوغِها؟

ثانيًا، "المُحاوَلَةُ والتَّساؤلُ، هذا كان مَنهَجي". مِنَ المُفيدِ جِدًّا أن نُحاوِلَ ونَتساءَلُ ونَكتَشِفَ، ولَكِن لَيسَ فِي أُمُورِ خلاصِنا أو خَلاصِ مَا نَحنُ مُؤتَمَنون عليهِ، بِخاصَّةٍ إذا كانَ الموضوعُ مُهلِكًا أو مُدمِّرًا للنُّفوسِ، ونَتائِجُه أصلًا مَعروفَةٌ وظَاهرة.

وكَم مِن مَرَّةٍ سَلَكنا طُرُقًا تُناسِبُنا، وقَد تَكونُ مُلتَوِيَةً تَلبِيَةً لِرَغباتِنا وشَهواتِنا، ولا أَقصِدُ نيتشه، ضَارِبينَ الحَقَّ عَرضَ الحائِطِ، لأنَّنا بِكُلِّ بَساطَةٍ وَاقِعينَ في فَخِّ الكِبريَاءِ وجُنونِ العَظَمَةِ وحُبِّ الأَنا القَاتِلَة[3]؟.

وهُنا يَلفِتُني ما كَتَبَهُ المُحَلِّلُ النَّفسيُّ الفَرَنسِيُّ المُعاصِرُ Pierre-Félix Guattari، أَنَّ صاحِبَ هَذا النَّهجِ الجَشِعِ يُصبح كالرُحَّلِ الّذينَ يَبحثُونَ عن مَرعًى لأغنامِهِم، فيَنتَقِلُونَ مِن مَكانٍ لآخر. وكُلَّما كانَ المرعى أكثَرَ خِصبًا كان أكثَرَ نَفعًا لهم، بِغَضِّ النَّظرِ عنِ الظُّروفِ والنَّتائِج.

إنَّها البراغماتِيَّة (فَلسفَةُ الذَّرائع) والانتِهازِيَّة بِامتِياز. وعادَةً ما تَجعَلُ صاحِبَها كالحِرباءِ يَتَلوَّنُ بِلونِ المَكانِ الّذي هو فيه. ويَكونُ الهَذَيانُ نِهايَةَ المَطافِ لِمَن يَتبَعونَ جشَعَ أهوائهُم، فتَبقى نُفُوسُهم تَتَخَبَّطُ بِهَيَجانٍ مُهَدِّمٍ لا قَرارَ له ولا سلامَ داخِليّ ولا طُمأنينة.

ثالثًا، "الطَّريقُ غيرُ مَوجُود". قد نَظُنُّ للوَهلَةِ الأُولى أنَّ "نيتشه" تَوصَّلَ إلى خَاتِمَةِ تَساؤلاتِهِ وبَحثِهِ، ولكن في الحَقِيقَةِ نَجِدُهُ سُرعانَ ما يَنقُضُها. والجَوابُ بَسيطٌ، لأنَّ الإنسانَ لا يَرتَاحُ إلّا بِاللهِ، أأَدرَكَ ذَلِكَ أمْ جَهِلَهُ. مِن هُنا لا يُوجَدُ مُلحِدٌ بِالمَعنى التَّام، بل يُوجَدُ "لا أدري Agnostique"، أي لا يَعرِف.

في الخُلاصَةِ نَقولُ إنَّ ما كَتَبَهُ "نيتشه"، لا يَعنيهِ وَحدَهُ، بَل يَعنينا جَميعًا، في الماضي وفي الحاضِر وفي المُستَقبَل.

إنَّ زَمانَ حياتِنا قَصيرٌ مَهمَا طَالَ، وَ"الحَقِيقَةُ" أُعلِنَت لنا بِالكامِلِ بِتَجَسُّدِ الرَّبِّ، وَ"الطَّريقُ" حَقًّا مَوجُودٌ، وهُوَ المَسيحُ. فلا أَحدَ يَعرِفُ صَالِحَنا أفضَلَ مِمَّن خَلَقَنا وصُلِبَ مِن أجلِنا لِيُقيمَنا مَعَه.

فَكم جَميلٌ أن نَسلُكَ في طَريقِ الخَلاصِ مُرَنِّمينَ المَزمورَ القَائِلَ: "الرَّبُّ يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ"، واثِقينَ أنَّ هذا هُوَ "الطَّريقُ والحَقُّ"، الغَالِبُ والظَّافِرُ مَهما زادَتِ الصِّعابُ واشتَدَّت، فَنقولُ: "إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي"(مزمور ٢٣).

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] 1844-1900

[2] Friedrich Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, Le livre de poche, Gallimard, 1947, p.225-226.

[3] «Le moi est haïssable» Blaise Pascal. (1623-1662)