لِكلِّ عالَمٍ أساطيرُه المؤسِّسة.

والأسطورة، بين جوهرها الذي يبغي أن يكون كاملاً، ووجودها الذي ليس كائناً، حقيقة... الى أن تتحقَّق. هي ليست وليدةَ عَجزِ إدراك، بل توثُّبُ تَوقِ بقاءٍ في مواجَهَة الزائِل. مِنَ الروحِ تأتي، وإليه تعودُ لِجَعل الآتي مَدارَ تَجدُّدٍ.

والأساطيرُ عَوالِمٌ:

بَعضُها مُمتلئٌ تعجرُفاً يَنسجُ من الغُبار مَزيدا من تَراكُمِهِ. هي تلكَ أساطيرُ الإغريق: آلهةٌ تتوالد من وَهمٍ، وتتزاوجُ بالضلالِ، وتتنافى في المُقتِ، وقد حوَّلت الأمكنةَ جَحيماً. مِنها يهرُبُ البَشَرُ بِتحدّي المخاطرِ طمعاً بالحياة، فإذا بِهِم يعودون الى الدورانِ مِن حَيثُ إنطلقوا.

وبعضُها مُمتلئٌ خطايا تَتَعالى بِدماء البَطشِ، وقد إنطَلَقَت من ذِئبَةٍ، هي رمزُ الإنقضاضِ على البشرِ. غَذَت توأمينِ، وما إن كبرا حتى أبادَ أحدُهُما الآخر ورَمى جثَّتَهُ في نَهرِ المَوتِ الدائِمِ كي لا يعودَ، وتَسلَّط على المَدائِنِ بِنَهَمِ العُنف، مُطوِّباً إيَّاها على إسمه: رومولوس-روما.

بعضُها يَفيضُ مَكراً، وقد فَصَلَ بين الكُلِّ الذي هو دونَه بَعدَما حَوَّلَه أشياءَ مُستَعبَدَة، ونَفسه التي لا مُساوٍ لها. لا تابِعَ لَهُ إلاَّ شَهوَتَهُ، وقد جَسَّدَها بِرؤوسِ أكثرِ الحيوانات إفتراساً، مَرفوعَةً على أجسادٍ بَشَريَّةٍ: فراعنةٌ-آلهة.

وبعضُها يَفيضُ عُصياناً مِمَّن شهوتُهُ أن يكونَ إلِهاً لا إلهَ لَهُ إلّاهُ. شَهاداتُهُ زورٌ: هي المرأةُ التي أعطيتَني إياها... لاَ بَل الحيَّة مَزحوفَةُ الشرورِ أغوَتني... وتساؤلاتُهُ تَبريرٌ لجرائِمِهِ: أأنا حارِسُ أخي؟.

فيها مُجتَمِعَةً: إفناءٌ بالباطِلِ.

وإن في الباقي إلحاحاً لبُلوغِ اللامَعقول: هي أسطورة غِلغامِش المُنطَلِق مِن بِلاد ما بين النهرَين، بَحثاً عن نَبتَةِ الحياةِ وفي كُنهِها سِرُّ الخُلود، فَيَجِدُها في غابَةِ الأرزِ... لكنَّ الحيَّة تَبتَلِعُها بعدما تَرَكَها قُربَ نَهرٍ... فإنتهى التَحَدِّي الأوَّل، ليَعودَ مَع إرادةِ شَعبٍ بِبِناء أعلى أبراجِ المَسكونَةِ لبُلوغِ "باب-إيل"، بابِل، طَموحاً إنهارَ كَمِن وَهَنٍ.

إيل!

بِدايةُ البِدايات! مِن بيبلوسَ-اللبنانيَّةِ بأساطيرِها التي مِن فَيضِ حَياةٍ لا مِن إستِفاضَةِ مَوتٍ، مِن فَيضِ فَضائِلَ لا مِن إستِفاضَةِ رَذائِلَ، مِن فَيضِ إيمانٍ لا مِن غَيضِ عَدَميَّةٍ.

بيبلوس، ثالوثيَّة الألوهَةِ مُعطيِة الحياةِ: الإلَه الأب، الإلَهَةِ الأم والإلَهِ الإبن، المَكتوبُ في مَلاحِمِها المُقدَّسَة:

"عندما لم يكن للسَماءِ إسمٌ بَعد،

عندما لم يكن للأرضِ تحت السِماء إسمٌ بَعد،

كانَ هنالِكَ ثالوثٌ أقدَس".

بيبلوس، القيامةُ وطيرُ الفينيق: ذاك الذي إستَبَقَ مَوتَ الإلَهِ الأبنِ، أدونيس وقيامته في اليوم الثالث، بَعدما صَرَعَهُ الشَرُّ، بأن إختارَ إحراقَ نَفسِهِ بالعَنبَرِ فِداءً عَن البَشرِ ليَقومَ مِن رَمادِهِ في ثالِثِ يَومٍ، مُرجِعاً الحياةَ الى قيمَة ذُروَتِها.

ونِهاية البِدايات! من صورَ-اللبنانية، "الصخرةِ"، بأساطيرِها التي مِن بِناءِ حاضِراتٍ لا مِن تَدميرِ مَدنيَّاتٍ وإلغاءِ حَضاراتٍ وإهراقِ شُعوبٍ. هي مُعطِيَةُ قرطاجة-"المدينَةُ الجَديدةُ" التي واجَهَت إصطِباغَ العالَمِ بأسرِهِ بِفِكرٍ آحاديٍّ كَما أرادَهُ الإغريقُ، وتَدجينِهِ بِبَطشِ القوَّة كَما إرادَهُ الرومان.

لِكُّلِ عالَمٍ أساطيرُهُ المؤسِّسة.

وَحدُهُ العالَم اللبنانيُّ كان مُلِحَّاً في بُلوغ تَماهي مَحدوديَّةِ العِقلِ البِشريِّ مَع لامحدوديَّةِ العَقلانيَّة الإلهيَّة.

ووَحدُهُ إستَبَقَ مِلءَ الزَمَنِ... الذي فيهِ اعتُلِنَ للمَلءِ ما كانَ في لبنان دَلائِلَ.

هو الملءُ أبطَلَ تُرَّهاتِ أساطيرَ لأنَّها ضِدُّ العَقلِ، وأكَّدّ لبنانَ، المُترَعِ بأسرارِ وِحدةِ العَقلِ... وما فَوقَ العَقلِ.

مِن هُنا بَقاؤهُ... ومِن هنا زَوالُهُم، هُمُ الذينَ نَقيضُهُ.