مَن يَتتبَّعُ التَّرتيبَ الليتورجِيَّ للكَنيسة، في مَواسِمِها المُختَلِفَةِ على مَدارِ السَّنَة، لا يَستَطِيعُ إلّا أن يَقولَ: "المَجدُ لَكَ يا الله"، لِما فيها مِن تَنظيمٍ وَتَكامُلٍ، ولِما تَحويهِ مِن صَلواتٍ وألحانٍ تُحاكِي كُلَّ الأوضَاعِ مِنَ الحُزنِ إلى الفَرَحِ، ناهيكَ عنِ التَّرتيبِ والدقّةِ المُتنَاهِيةِ والتَّناغُمِ الرَّهيب، كَأَنّها تَقولُ مَعَ بُولُسَ الرَّسول: "وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ"[1].

ليسَ الهَدَفُ مِنَ التَّرتيبِ المُفاخَرةَ أو التَّباهي، أو الطَّرَبَ والمُبارَزَة، حاشا، بل تَهدِفُ أن تَكونَ صَلاةُ المُؤمِنينَ مُرَتّبةً وبِلا تَشويش، وهَذا يَبدأُ أوَّلًا بِتَنَاغُمٍ وانسِجامٍ بَينَ الرُّوحِ والجَسَدِ، بَعيدًا كُلَّ البُعدِ عنِ الانفِصَامِ، لأنَّ الهَدَفَ بِحَسبِ القِدّيسِ سيرافيم ساروفسكي[2]: "الامتِلاءُ مِنَ الرُّوحِ القُدسِ"، وليسَ الانتفاخَ بِالمَجدِ البَاطِل.

فالآباءُ القِدّيسُونَ على مَرِّ السَّنواتِ كَتَبوا ما كتَبُوهُ، ولَحَّنوا ما لَحَّنُوهُ لِمَجدِ الرَّبِّ القُدُّوسِ لا لِمَجدِهِم الخاصّ، ولا لكي تَكتُبَ عَنهُم صَفحاتُ التّاريخِ البَشريَّة، أو لِيَنالوا الشُّهْرَةَ والثَّناءَ مِن أَحدٍ. جُلَّ ما كان يَهُمُّهم أن تُكتَبَ أسماؤهم في سِفرِ الحَياةِ الأبدِيَّةِ، وأن يكُونوا في اصطِفافٍ مَعَ الرَّبِّ المَذبُوحِ مِن أجلِنا.

وهذا كُلُّهُ ما كانُوا ليُحَقِّقوهُ لولا تَطبيقُهم لِقَولِ يَسوع: "إِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ"(متى ٢٩:١١).

فَحَملُ النّيرِ أي الصَّليب، واتِّخاذُ الرَّبِّ مُعلِّمًا ومِثالًا، وعيشُ الوَداعَةِ والتَّواضُعِ، يَجعَلُ الإنسانَ في رَاحَةٍ دَاخِليَّة، يُتَرجِمُها مَحبَّةً وتَنظيمًا وحُسنَ تَرتيبٍ، في كُلِّ ما يَقومُ بهِ ويُفكِّرُ بِهِ ويُقرِّرُه. وهذه الرَّاحةُ تنعَكِسُ بِالتَّالي، على مُحيطِهِ وعلى الآخَرِين، عندَها يُصبِحُ سِمفونِيَّةً إلهِيَّةً تَعزِفُ ألحانًا سَماوِيَّةً مُتناغِمَةً وَسطَ هذا العَالَمِ الفَاني.

وهذا تَمامًا مَا جَعَلَ كِتابات القدّيسين في اللّيتُورجِية تأتي صَحيحة، وذلك لأنَّهُم كانُوا يَتبَعُونَ قائِدَ "أوركسترا" واحدًا وهُوَ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيح.

فلَو تَبَعُوا أنفُسَهم لَكانَتِ الغَوغائِيَّة. وهناكَ قَولٌ شائِعٌ في عِلمِ الإدارَةِ: "عِندما تَعُمُّ الفَوضى إبحثُوا عن قائِدِ الأوركِسترا"، والأخطَرُ مِن هذا ما قالَهُ الكاتِبُ الفرنسيCharles Péguy[3] "هناكَ تَرتيباتٌ جائرَةٌ، تُخفي أَسوأ الاضطراباتِ والفَوضى".

الرَّبُّ يُريدُنا أن نَعيشَ مَعَه في "سِمفونيته" الإلهيّةِ، مَهما صَعُبَتِ الأحوالُ، واشتدَّتِ الظُّروفُ حَولنا، نتَجاوَبُ معه قَلبًا وقاَلبًا، حياةً وأعمالًا وصلاة. وهذا ما تَعنيه كَلِمَة سِمفونيَّة بأصلِها اليُونانيّ Sinfonia[4]: أصواتٌ مُتآلِفة.

وهنا أنتقِلُ إلى سِمفونيَّةِ المُبدِعِ الإيطالِيّ "الفُصولُ الأربَعة"، لعازِفِ الكمان الشهير [5] Antonio Vivaldi، المَليئَةِ بِالوَصفِ الدَّقيقِ للتَّقلُّباتِ التي تَحدُثُ في كُلِّ فَصلٍ في السَّنة. ومَن يَتَعمَّقُ بِها يَشعُرُ أنَّها تُحاكِيهِ شَخصيًّا، ويَجِدُ نَفسَهُ مُسرِعًا نحوَ اللهِ القُدّوسِ يُريدُ الالتصاقَ بهِ أكثر وأكثر.

لقد قِيلَ عَنها الكَثيرُ، ووُصِفَت بموسيقى مَليئَةٍ بِالتَّناقُضَاتِ الدرامِيَّةِ القَويَّة، بِالتَّقسيمِ والتَّوزيعِ بَينَ العَزفِ الفَرديّ والجَماعِي، كَأَنَّها قِصَّةُ حياةِ الفَردِ والمُجتَمَعِ، إذ فيها الطَّقسُ الدَّافِئُ والحارّ، والمُشمسُ والمُمطر، فيها السَّريعُ والبَطيء، والهادئُ والصَّاخِب.

مَشاعِرُنا كُلُّها هنا، كيف لا وَالمُوسيقَى لُغَةُ المشاعرِ كما وَصَفَها الفَيلَسُوف الألمانيّ Emmanuel Kant[6].

سِمفونيّة Vivaldi منسَّقَةٌ بِشكلٍ مُتكامِلٍ كَأنَّها فَصلٌ مِن فُصولِ حَياتِنا، حيث يَصِلُ المؤلفُ إلى الارتِقاءِ والتَّغلُّبِ على العَوامِلِ التي يَتخَبَّطُ بِها الإنسان. وكانت مَعزوفَتَهُ تَتَرافَقُ مع أبياتٍ شِعريَّةٍ تَشرَحُ مُحتَواها المُوسِيقِي.

النُّقطَةُ الجَوهَرِيَّة فيهَا الدَّورُ البارِزُ للعَزفِ المُنفَرِد، الّذي هُوَ الإنسانُ المُنتَصِر. وهذا الإنسانُ في تَناغُمٍ تامِّ معَ كُلِّ الأُوركِسترا، بَعيدًا عن أي نَشازٍ، وهَكذا تَكتَمِلُ اللَّوحَةُ المُوسِيقِيَّةُ الفَنِّية.

ولا يَستَغرِبَنَّ أحَدٌ إن قُلنا إنَّ ما قَامَ بِهِ Vivaldi مِن إبدَاعٍ، وجَعلِهِ الطَّبيعَةَ تَتكلَّم، مَا هُوَ إلّا بحثٌ في أعماقِ ذاتِهِ وارتقاءٌ سَماويّ. فكُلُّ عَملٍ فَنّي راقٍ، يَتخَطّى المَنظورَ والمَسموعَ والمَقروء والمَلمُوسَ، إنَّهُ صُعودٌ مِن أَجلِ اللّقاء.

فَالأحدَاثُ الّتي تَمرُّ في هَذهِ السِّمفُونِيَّةِ، والصَّرخاتُ التي فيها، خَاصَّةً عِندما تَعلُو المُوسيقَى، وإن تُعَبِّر عن شَيءٍ ما يَحدُث، ما هِيَ إلّا مُناجَاةُ خَلاص.

فَهُوَ يَبدأُ بِفَصلِ الرَّبيعِ، والنُّوتّاتُ المُوسيقِيَّةُ التي استعمَلها تُتَرجِمُ نُورَ هذا الفَصلِ الدّافِئ، ووِلادَةَ الحَياةِ فيهِ مِن جَديد، وزقزقةَ العَصافيرِ المُفرِحَةَ، وصَوتَ جَريانِ المِياهِ في الجَداوِل، وصَخَبَ الرُّعيانِ مَعَ الخِراف. إنَّها قَصيدَةٌ شِعريَّةٌ مِن خلالِ الموسيقى.

ومِن ثَمَّ يَنتَقِلُ إلى فَصلِ الصَّيفِ حَيثُ الهُدوءُ والحُزنُ معًا، نَتيجَةَ الحَرارَةِ المُرتَفِعَةِ في هذا الفصل. كما يُفسِحُ في المَجالِ لِهُبوطِ أمطارٍ مُتَقَطِّعَةٍ تأتِي على بَغتَة. هُناكَ مُواجَهَةٌ كَبيرةٌ في مَعزُوفَتِهِ، وقد وُصِفَت هذه المواجهةُ بالتضاد Contradiction، إلّا أنَّها مَسَارُ تحدّيّاتِ الحياة.

أمَّا فَصلُ الخَريفِ فَلَهُ حُضورُهُ المُمَيَّز، القِطَافُ وفَرحَةُ المُزارِعينَ والحَصَّادِينَ واحتِساءُ الخَمرِ، والصَّيدُ مَعَ الكِلاب. كُلُّ هذا تُصَوِّرُه لنا مُوسيقَاه. ويَختُمُ مع فَصلِ الشِّتاءِ، بِالفَيضانَاتِ والعَواصِفِ والرُّعودِ والبُروقِ والرِّياحِ الشَّديدَةِ والبَردِ القَارس، والجُلوسِ قُربَ نارِ المِدفأة. ونَشعُرُ بِمُرورِ الرِّياحِ الشَّمالِيَّةِ البَارِدَةِ على الرُّغمِ مِنَ الأبوابِ المُغلَقَة. كمَا يَصِفُ السَّيرَ على الجَليدِ بِبطءٍ وحَذَرٍ خَوفًا مِنَ التَّعَثّرِ والسُّقوط.

تَحمِلُ هذه اللوحاتُ الموسيقيّةُ عن الفصولِ معانٍ أعمقَ بكثيرٍ مِن العواملِ الطبيعيّة، إنّها حالاتٌ نَعيشُها وتَجارِبٌ تَحدُثُ معنا يوميًّا بأوجهٍ مُختلفة.

بالعَودَةِ إلى سِمفونِيَّتِنا الليتُورجِيَّةِ، إنَّها تُحاكي الإنسانَ في كُلِّ حالاتِهِ الفَرِحَةِ والحَزينَةِ مُترافِقَةً معَ حَدَثِ القِيامَة.

وفي هَذه الثُّلاثِيَّةِ المُترابِطَةِ بإحكامٍ، الحُزنِ والفَرحِ والمَجدِ يَأتي الخَلاص. هِي إذًا سِمفونِيَّةٌ إلهِيَّةٌ بكلّ ما للكلمةِ مِن معنى.

فَمِن جِهَةِ الأحاسيسِ، إنَّها لُغَةُ المَشاعِرِ الّتي تَنقّت وهَدأت وطَابَت وشُفِيت.

ومِن نَاحِيةِ الوَصفِ إنّها تَصِفُ ما لا يُوصَف.

ومِن نَاحِيةِ الفَنِّ والإبدَاع، إنَّها مُلتَصِقَةٌ بِالمُبدِعِ الأوَّلِ والفَنَّانِ الأوَّلِ، ومُنبَثِقَةٌ مِنه، وهُو الرَّب.

فإن قَالَ Friedrich Nietzsche[7] إنَّ الحياةَ مِن دُونِ المُوسيقَى تَعبٌ ومنفىً، نَقولُ إنَّ حياتَنا مِن دُونِ "سِمفونِيَّتِنا الإلَهِيَّةِ" تَغرُّبٌ وجَحِيم.

خُلاصةً، يَقولُ أفلاطون: "إذا أَردتَ التَّحكُّمَ بِشعبٍ، إبدأ بِالتَّحكُّمِ بِمُوسيقَاه". هَكذا نَحنُ، عِندَما نَتخلّى عن "سِمفونِيَّتِنا الإلَهِيَّةِ" يَتحَكَّمُ فينا إبلِيس.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] (١ كورنثوس ٤٠:١٤)

[2] 1759-1833

[3] 1873-1914

[4] المعنى الحرفي للكلمة: أصواتٌ تسير معًا.

[5] 1678-1741

[6] 1724 – 1804.

[7] 1844 – 1900.