ليس لبنان عِناقاً في الغَيبيَّات، بل إلتِزاماً في العَلِيَّات.

صُعوبَةُ إدراكه، أنَّه ثالوثٌ يُجاسِدُ الواقِع ويواكِبُهُ. مِن هنا وجوبه ووجوبُ وَعيهِ في آنٍ. وفي أساسِ تهافُتِهِ هذا تًهافُتٌ في رِسوليَّة الدينِ. والدينُ في لبنانَ هو دينُ لبنانَ.

أن تؤمِنَ بِهِ، يَعني أنَّك تأتي إليهِ لا مِن مِصلحةٍ آنيَّةٍ، بل مِن مَسَاحبَ البداياتِ الى لامحدوديَّة الحاضرِ. عِندها تُدرِكُ ثَباتَهُ، وتَماسُكَ مَداهُ. لا فاصِلَ بين الدينِ ولبنان، ولعّلَّ عَظَمَتَهُ تَنبثِقُ مِن كَونِهِ مُنبثِقاً مِن إستِعظام الدينِ، صِلةً للإنسانِ بالإنسانِ لا بالخالِقِ فَحَسب. كلُّ ما دونَهُ عابِرٌ يراوغُ ويغورُ، وهو يَتحدّاه في الشاهقاتِ بِها يُداهي الحقيقةَ. تلكَ التي ليست لِزوالٍ. وبِهايَغدو مسؤولاًعن الإنسانيَّةِ فيما هي تَرزَحُ تحتَ غِلالِ التلاعُب بكيانيَّتِها. وهو تلاعبٌ أبعَدُ مِن مُخطَّطِ سياساتٍ وأخطرُ من أرقامِ إقتصادات، وأعنفُ مِن قرقعةِ سِلاحٍ. كلُّها ترَّهات أفقيَّات فحواها دونيَّات نَهِمَة لا جوهرَ تحرُّرٍ فيها.

قُلنا، فيهِ هو، إرتقاءٌ. لنَعتَرِف أنَّه فاتحةٌ عاموديَّة لا أعلى فوقَها.

وما تاريخُ لبنان إلَّا الأصدَقُ إفحاماً. فلنشرح: فاتحةٌ ثالثوثيَّة.

ألم نَقُل أنَّه ثالوثٌ؟ها هي أقانيمُهُ:

مِن المسيحيَّة، أقنومُه الأوَّل: المحبَّة وهي أكثَرُ من طواعيَّة المعرِفَة وتَطويعِها، إذ مِنها يَتَدَّفَّقُ يُنبوعُ الحريَّة بَينَ الخَلقِ وطَواعيَّة العَقلَنَةِ.

ومِن طائفة الموحِّدينَ الدروز: الحِكمَةُ وهي أكثَرُ مِن حِرفَنَةِ المِعرِفَةِ، بَل مُعادَلَةُ الإستقرارِ والإستمرارِ بَينَ ثنائيَّاتِ المادَّة والروحِ، إذ مِنها يَتَدَفَّقُ هَديرُ التحرُّرِ.

في ذَلِكَ واقعيَّةٌ ولا أبدَع لقُرونٍ، تَكَوكَبَ حَولَها الأقنومُ الثالثُ مِن الإسلامِ: الرحمة وهي أكثَرُمن حُلوليَّة المَعرِفَةِ في الأسمى في تَجسيدٍ إنسانيٍّ يَستَمِدُّ مِنها صِلاِبَتَهُ، إذ مِنها يَتَدَفَّقُ مَجهودُ شاسِعاتِ التَفَّهُمِ والتَفاهُم.

هو ذلِكَجَوهرُ لبنانَ الكبير: ولم يكن وَهما، بل أخطرُ فِعلٍ وِجدانيٍّ تَحقَّقَ فِعلاً حَضاريَّاً: أساسُهُ الكلمةُ، والكلمةُ نَقيضُ العَدَميَّةِ.

كيف لا، إذ لا يُوجد خَلفَ المَحبَّةِإلَّا المَحَبَّة، وخَلفَ الحِكمَةِإلَّا الحِكمَة، وخَلفَالرَحمَةِإلَّا الرَحمَة! كيف إذاإجتَمَعَت مَعاً في كَينونَةٍ واحِدَةٍ، مُحكَمَةٍ، عاداها اولَئِكَ الذينَمِن خارِجٍ جَرَّدوا الإنسانيَّةَ مِن رِكائِز أساساتِها، بَعدَما ضَرَبوا الزمنيَّاتِ بالأرضيَّات، ليَقضوا عَليهِما في آنٍ؟!.

لا مَناصَ مِن لبنانَ الثالوثِ هذا، لِخلاصِ اللبنانييَّن... والعالم. وقد دَفَع اللبنانيُّونَ غالياً أثمان تَقَوقُعِهِم على فَرديَّة أقانيمِهِم، مُعتَقدِينَأنَّهُم لِوَحدِهِم لبنان. وكَم وَقعوا في شَركِ مَن عاداهُم، اولَئِكَ الذينَ ما إبتَغوا إلاَّ جَعلِنَقائِصِهِمهُم ادواتِرَزايا وتَدميرٍلما هو واجِبُوجوبِهِم، بِجَبروت القوَّة.

أسانيدَ ثالوثيَّة لبنان

أيُعقَلُ أن يَخاف بَعضُ اللبنانييٍّنَ مِن إندثارِهِم في وَطنِهِم والمِنطَقة، دون سائِرِهِم؟.

أيُعقَلُ أن يَجهَدَ بَعضُ اللبنانييِّنَ في تغييِّر هويِّة وَطنِهِم، إنتصاراً على سائِرِهِم؟.

أيُعقَلُأن يُشَّوِهَاللبنانيِّونَالى هذا الحَدِّ أسانيدَ ثالوثِيَّتِهِم، وهي: في المحبَّة خَلقٌ، وفي الحِكمَةِ فِداءٌ، وفي الرَحمَةِ إنبِعاثٌ مِن مَوت، وقد إستَبَقوا بِها تَذهينَ الماضي وتَشريع المستقبل، إنطلاقاً مِن حاضِرِهِم؟.

إنَّ التَمَنهُجَ اللبنانيَّ الثالوثيَّ، حيثُ كلُّ أقنومٍ يَستَمِدُّ قوَّتّه مِن الآخر، لا مِن خارجٍ، يَبقى أوجَبُ المُعطيات رسوليَّةً في كُليَّةٍ هي إنسِجامٌ بين إرادَةِ المَحَبَّة، وخَيرِ الحِكمَةِ، وفَضيلَةِ الرحمة.

لبنانُأعجوبةُ اللبنانييِّنَ، فَليَعتَصِموا بثالوثيَّتِهِ!.

(مهداة الى سماحة شيخ العقل سامي ابي المنى)