ما يزيد عن 100,000 طفل دون سن الـ 18 عاماً يعملون على الأراضي اللبنانية.رقمٌ مخيفٌ يُظهر حجم الجريمة التي تُرتكب بحقّ الطفولة. فعلى الرغم من القوانين اللبنانية والإتفاقيات والمواثيق الدولية المعنيّة بحقوق الطفل، لا سيّماإتفاقية حقوق الطفل التي صادق عليها لبنان عام 1991، لا يزال مشهد الأطفال حاضراً بقوّة عند تقاطع الطُرق والمُستديرات والمحال التجارية...، بل ولم يعد أمراً خارجاً عن المألوف...

ألم تنصّ إتفاقية حقوق الطفل على حقّه " في حمايته من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجّح أن يكون خطيراً أو أن يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو أن يكون ضارّاً بصحة الطفل أو بنموّه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو المعنوي، أو الاجتماعي"؟!.

لكن الواقع أبعد ما يكون عن الإتفاقيات والنوايا!.

"آباءٌ صغار" للإِعَالَة

محمد، وهو اسم مستعار لأحد أفراد أسرة من التابعيّة السورية، تتكوّن من ثلاثة أخوة مع والدتهم. يعمل مع والدته -بعدما تركهم الوالدـ من أجل تأمين معيشتهم، وذلك بعدما دفعته الظروف الماديّة والإجتماعيّة إلى ترك دراسته، بسبب سوء الخدمات التعليميّة المقدّمة للنازحين، وغياب المساعدات الإجتماعية والماديّة والصحيّة. ومحمد واحد من آلاف الأطفال الذين دفعت بهم ظروفهم الصعبة إلى مواجهة الحياة، فوقعوا أسرى ظروف أصعب وأخطر...

وهي ظروف تزداد تفاقماً نظراً لما يعيشه لبنان من واقع إقتصادي وسياسي وإجتماعيوصحيمتأزّم ...هذا البلد الصغير الذي لا تتعدّى مساحته 10452 كيلومتراً مربّعاً،والذي تضاعفت أزماته بسبب ازدياد عدد سكّانه بمئات الآلاف مع تدفق النازحين السوريين إثر الحرب الدائرة في سوريا منذ العام 2011.

كلّها أزمات تهدّد مستقبل الأطفال، في ظلّ عدم وجود سياسات واضحة تتعلّقبهم، والتي يتقاسم مسؤولية رسمها عدد من الوزارات،لا سيّما وزارات الداخلية والعدل والعمل والشؤون الإجتماعية، بالتعاون مع المنظمات الدولية والمحليّة ذات الصلة.

عدم القدرة على التغيير

تقول نزهة شليطا، وهي رئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل، إنّ "عدد الأطفال العاملين مرجّح للإزدياد بوتيرة سريعة بسبب غياب التدابير الحمائيّة والمساعدات والخدمات الصحيّة والإجتماعية والتربوية، بالإضافة إلى الوضع الإقتصادي، وعدم توفّر التعليم المجاني والإلزامي للجميع، وازدياد نسب التسرّب المدرسي". كما تقرّ بأنّ نقص عدد المفتّشين في قسم التفتيش في الوزارة يرتّب على هذا القسم، بشكل أو بآخر، مسؤولية زيادة عدد الأطفال العاملين.

وتطلق شليطا الصرخة بأنّ "الخطة التي أطلقتها اللجنة الوطنية للقضاء على أسوأ أشكال عمل الأطفال لم تحصل على التمويل اللازم لها.فالمراكز التي أُنشِئت من موازنة الوزارة المتواضعة في البقاع وطرابلس والنبطية والأوزاعي أُقفِلَت بسبب وقف التمويل، إذلا موازنة مُخصّصة في وزارة العمل، ولا في أي وزارة أخرى، لمكافحة عمل الأطفال، وإنما نعتمد على الدول المانحة والجمعيات الأهليّة والمؤسسات الرعائية".

وحول ​سياسة​ الوزارة، تكشف شليطا عن اتّجاه الوزير لتفعيل عمل اللجنة الوطنية لمكافحة عمل الأطفال، والتنسيق مع الوزارات الأخرى ودعوة المنظمات المحليّة والدولية لوضع خطة طوارىء واتخاذ إجراءات عاجلة وبدائل سريعة.

الحدّ من عمالة الأطفال وتأهيلهم

حاولنا مقابلة أحد المسؤولين في المجلس الأعلى للطفولة،إلّا أنّ المدير العام أحال الكتاب الذي وجهناه للوزارة، بعد الموافقة عليه، إلى مديرة المشروع الوطني لمكافحة التسوّل في وزارة الشؤون الإجتماعية، سيما معاوية. إنّ "أزمة كورونا غيّرت واقعنا،لا سيّمابسبب تداعياتها على الأهل الذين فقدوا أعمالهم، ممّا اضطرهم لإرسال أطفالهم إلى سوق العمل من أجل إعانتهم" على حدّ قول معاوية.وتضيف بأنّ"إغلاق البلاد والمدارس الرسميّة،ناهيك عن الأزمة الإقتصادية،وانفجار مرفأ بيروت وما تلاه من فقدان ثقة المجتمع الدولي بالسلطة السياسية وتحويل المساعدات المادية إلى الجمعيات غير الحكومية، كلّها عواملومؤثرات انعكست سلباً على عملنا القائم على الهبات والمساعدات والتعاون مع الجمعيات الأهليّة".

وتعبّر معاوية عن غضبها من أداء أساتذة التعليم الرسميّ بسبب إضرابهم المستمرّ. وتعتبر أنهبسببهم، يقبع جيل بأكمله في الظلام.وتكمن الكارثة،حسبما تعتقد، في الموازنة المخصّصة للوزارة والتي تستنزفها الأعداد المهولة (أطفال تتراوح أعمارهم ما بين الـ 4 سنوات وسنّ الـ 18) في مراكز رعاية الأطفالالبالغ عددها 185 مركزاً"مما أفقدنا القدرة على تغطية الخدمات".

وعن المشاريع التي تقوم بها وزارة الشؤون الإجتماعية، تقول معاوية إنّ "الوزارة أعدّت منذ سنتين خطة لسحب أطفال الشوارع وإعادة دمجهم في المجتمع، إلّا أنّ المشروع توقّف بسبب جائحة كورونا". لكنّها تعود لتؤكّد أنّ الوزارةتنوياستئناف العملفي هذا الاتجاه، خلال العام الحالي،بالتعاون مع منظمة اليونيسف.وتشير إلى أنّ "الوزارةبصدد العمل على مشروع تأهيل الأطفال والحدّ من ازدياد نسبة عمالتهم وتطبيقه داخل المراكز الإنمائية التي تبلغ 250 مركزاً في جميع أنحاء لبنان".

مسؤولية الأسرة!

تعمل منظمة اليونيسف في لبنان جاهدةً لمعالجة قضايا حماية الطفل ضمن أكبر أزمة للاجئين في العالم.وبهدف توفيرالحماية للأطفال الأكثر عرضة لمخاطر العنف وسوء المعاملة، أسّست علاقة وثيقة مع الحكومةاللبنانية وعدد من الشركاء الوطنيين الرئيسيين. كما أطلقت برنامج "حماية الطفل" لضمان نمو جميع الأطفال والنساء المعرّضين للخطر أو الناجين من العنف والإستغلال وإساءة التعامل في مجتمعات ومؤسسات آمنة، ولتأمين وصولهم الى الخدمات الجيدة.

وكانت المنظمة،في شهر تشرين الأوّل من العام الماضي، قد أجرتاستطلاعاً جاء فيه أنّ "12% من الأسر المشمولة بالإستطلاع أرسلت طفلاً واحداً على الأقل الى العمل، بعد أن كانت هذه النسبة لا تتجاوز 9% قبل ستة أشهر، حيث يعمل أطفال لا تتجاوز أعمارهم ست سنوات، في المزارع والشوارع وبيع الوقود بصورة غير قانونية، مما يعرّضهم لخطر الحروق الخطيرة وحتى للموت".

أولوية للتعليم

تتزايد في الآونة الأخيرة جهود المؤسسات غير الحكومية لمكافحة عمالة الأطفال، و"جمعية إنقاذ الطفل في لبنان" من بين تلك المؤسساتالتي تعتبر أنّ الأوضاع الإقتصادية هي السبب في تفشّي ظاهرة عمالة الأطفال.فبحسب شيرين مكارم، مديرة الحملات والمناصرة في الجمعية،"يجب أن تكون البداية بالتركيز على أهميّة التعليم عند الأطفال، وتسوية قضية أساتذة التعليم الرسميّ".

تضيف مكارم: "تقدّم الجمعية العديد من البرامج التربوية والتعليمية التي تتيح للأطفال فرصة التعلّم بدل من وجودهم على الطرقات، بالإضافة إلى تقديم الدعم المادي للأهل لعدم إرسال أطفالهم إلى العمل وتدريبهمحول كيفيّة إدارة الأموال وزيادة وعيهم حول أهمية التعليم كحقّ من حقوقهم الأساسية".وتختم بالقول: "تقوم الجمعية بإجراء الإحصاءات التي تشكّل قاعدة معلومات للجهات الرسميّة في الدولة، والعمل مع الجمعيات المحليّة بهدف وضع خطة عمل لمكافحة عمالة الأطفال ومنع التسرّب المدرسي وحمايتهم من الأعمال السيئة والخطرة".

بين القانون والإعلام...

بالرغم من تزايد الجهود الدولية والمحلية لتعزيز حقوق الطفل ودعم مكانته الإجتماعية واقعاً وقانوناً، إلّا أنّالخطوات التي حقّقتها السلطات اللبنانية لا تزال غير كافية،والهدف النهائي، أي القضاء على كل أشكال عمالة الأطفال، بعيد المنال. علماً أنّ الوسائل التي ينبغي اتباعها من أجل تحقيق هذه الغاية عديدة، تبدأ بتوفير التعليم المجاني وفرض إلزاميّته، ورصد موازنات تتلائم مع متطلبات حقوق الطفل، وصولاً إلى تأمين الحماية الإجتماعية، وتعزيز الرعاية الصحيّة وخدمات حماية الطفل، وتفعيل التنسيق الجيّد في مسائل حقوق الطفل على المستويين الوطني والمحلي.هذا بالإضافة إلى وجوبإنشاء نظم فعّالة وعمليّة لتنفيذ حقوق الإنسان وحقوق الطفل كحقوق مترابطة بعضها مع البعض الآخر، عبر العمل على زيادة الإرادة السياسية والوعي والمعرفة والموارد البشرية والمالية.

ولوسائل الإعلام دور أساسي في إرساء هذه التوجهات، عبر تعزيز اهتمامها بقضايا عمل الأطفال وتقديم التقارير عنها بدافع التوعية على هذه المأساة المزمنة والمتفاقمة في آن، وللحثّ على تشكيل شبكة أمان إجتماعية متماسكة تقي هؤلاء الأطفال غدر الحرمان ومخاطر الإستغلال.

للمساهمة في مكافحة ظاهرة عمالة الأطفال، يمكن التواصل مع المؤسسات التالية:

وحدة مكافحة عمل الأطفال في لبنان في وزارة العمل / الخط الساخن 1740 /01540114

منظّمة إنقاذ الطفولة / الخط الساخن 01281865

اليونيسف / بيروت: 009611607400 / طرابلس: 009616410723 / زحلة: 009618810381