إستطاعَ الإنسانُ أن يَضَعَ قَوانِينَ وشرائِعَ في عالَمِهِ المَرئيّ، كما استَطاع أن يَقِيسَ المَنظورَ ويُحَدِّدَهُ، ولكن عِندَما أرادَ أن يَقِيسَ غَيرَ المَنظورِ بِمَقاييسِهِ المَخلُوقَةِ والمَحدُودَةِ، وَقَعَ في التَّضادِ إلى أن بَلغَ الشَّطَطَ، بِخَاصَّةٍ في ما دَعاهُ المَاوَرائِيّاتِ والقُوى العُظمى الكَونِيَّةَ وعِلّةَ الوُجودِ، والحَياةَ بَعدَ المَوت. وبَقِيَ سِرُّ الوُجودِ سِرَّ الأسرارِ عِندَ كَثيرِين.

وَحدَها المَسيحِيَّةُ، نَعم وَحدَها، أَعلَنَتْ بِالفَمِ المَلآنِ حَقيقَةَ هَذا السِّرِّ، وكَشَفَتْهُ مُبَشِّرَةً بِخالِقٍ وَاحِدٍ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ مِنَ العَدَمِ، وخَلَقَ الإنسانَ على صُورَتِهِ كَشِبهِه.

هذا الخالِقُ أَعلَنَ عن ذَاتِهِ لنا، وأتى إلَينا. أَتى إلى عَالَمِنا البَشريّ، وأَصبَحَ إنسانًا مِثلَنا (مَا عَدا الخَطِيئَة)، أو بِالأحرى لَحمًا، بِلُغَةِ الإنجيلِ اليُونانِيَّةِ الأصلِيَّة، وبَقِي في الوَقتِ نَفسِهِ إلهًا.

فمِن بِدايَاتِ التَّاريخِ، وعلى مَرِّ العُصورِ، لَجأ الإنسانُ إلى الصُّورَةِ لِيَدخُلَ في عَلاقَةٍ مَعَ الآلِهَةِ، ولِيُخَبِّرَ عن وُجودِها، أكانت آَلِهَةَ السَّماءِ أو حَتَّى آلهةَ الجَحيم. والأمثِلَةُ عَدِيدَةٌ ومُتنوِّعةٌ في هَذا المِضمار، إن كانَ في الكُهوفِ أوِ المَغاوِرِ أو عَلى الصُّخُورِ، أو لاحِقًا عِندَ شُعوبِ بِلادِ ما بَينَ النَّهرَين، والمِصريّينَ والإغريقِ والرُّومَان وغيرِهم مِنَ الأقدَمين.

وتَطوَّرَ الفَنُّ معَ تَطوُّرِ الإنسانِ، كما تَطَوَّرَ تَعبيرُهُ عن مَشاعِرِهِ وأحاسِيسِهِ وتَفاعُلِهِ وبَحثِّهِ الوُجُوديّ، وتَعَدَّدَتِ الوَسائلُ المُستَعمَلَةُ، والتِّقنِيّاتُ بينَ حَضارَةٍ وأُخرى، وضِمنَ الحَضارَةِ الواحِدة، وكَذَلِكَ تَعَدَّدَتِ المَدارِسُ الفَنيَّةُ وتَنوَّعَت، في العُصورِ الوُسطى وعَصرِ النَّهضةِ وبَعدَه، بَينَ الكلاسِيكيَّةِ والوَاقِعيَّةِ والرُّومانسيَّةِ والتَّجريدِيَّةِ والسُّريالِيَّةِ والتَّشكِيلِيَّةِ والمُعاصِرَة وغيرِها، ولِكُلٍّ مِنها هُويَّةٌ ونَمَطٌ وتَقلِيدٌ مختَلِفٌ، كُلُّ ذَلِكَ بِهَدَفِ الوُصولِ إلى أَفضلِ تِقَنيَّةٍ لاستِخدامِها في الفَنِّ وهُوَ تَرجَمَةُ بَحثٍ عن الكَمالِ، إلى أن بَرَزَت في أوروبا في القَرنِ التَّاسِعَ عَشَرَ عِبارَةٌ ألمَانِيَّةٌ، تُرجِمَت "L'œuvre d'art totale[1] العَملُ الفَنّي الجامِع"، وأتَت مِن خَلفِيَّةٍ رُومانسِيَّةٍ ألمانِيَّة.

تُشيرُ هذهِ العِبارَةُ إلى نَمَطٍ يَجمَعُ عِدَّةَ وَسائِلَ تِقَنِيَّةٍ مُختَلِفَةٍ لِتَجسيدِ عَملٍ ما. وشَملَتْ هذهِ العِبارَةُ مَعَ الوَقتِ كُلَّ المَيادينِ الفَنيّةِ مِن رَسمٍ ونَحتٍ ومَسرَحٍ ومُوسيقَى وهَندَسَةٍ وسِينِما وغيرِها. كما شَكَّلَت مَحطَّةً مُهِمَّةً في تَاريخِ الإنسانِ، لأنَّها أتت مِنَ الرَّغبَةِ في التَّعبيرِ عن وَحدَةِ الحَياةِ، بِاستِخدامِ كُلِّ الأنماطِ الفَنيَّةِ المُتَعدِّدَةِ وانصهارِها، وأيضًا بِالإشارَةِ والرَّمزِ إلى أَبعَادٍ فَلسَفِيَّةٍ ومِيتافِيزيقِيَّة.

أليسَ هذا بَحثًا عَنِ الكَمالِ ومَصدَرَ الكَمالِ؟ بِالتَّأكيدِ نَعم.

مِن هُنا أَتَتِ المُرادَفاتُ الّتي استُعمِلَتْ لِهَذِهِ العِبارَةِ مثلاً: "عَملٌ فَنيٌّ كامِل" و "عمَلٌ فنيٌّ مِثاليّ".

هنا يُطرَحُ السُّؤالُ التَّالي: ما الّذي يُشبِعُ غَليلَ الإنسانِ البَاحِث؟ ما الّذي يُروي عَطشَهُ؟ ما الّذي يُكَمِّلُ شَغَفَهُ الفنيَّ الصَّالِح؟ ما الّذي يمنَحُهُ السَّلامَ الدَّاخِلِيَّ التَّام؟ والطُّمأنِينَةَ المَرجُوَّة؟ والفَرَحَ الكَامِلَ؟ والغِبطَةَ القُصوى؟ والاستِقرارَ الدَّاخليَّ الثَّابت؟ وسَكينَةَ القَلبِ الفَريدة؟ و... غيرَها وغيرَها.

الجوابُ بِالنِّسبةِ للإيمَانِ المَسيحِيّ واضِحٌ وُضُوحَ الشَّمس، والأَجوبَةُ عنِ الأسئِلَةِ السّابقةِ تَكونُ بِاستِبدالِ "ما" بـ "مَن"، عِندَها يَكونُ الجَوابُ شَخصًا وليسَ فِكرَةً أو استِنتَاجًا، وهذا الشَّخصُ هُوَ "يَسوعُ" الجَامِعُ والكامِلُ والمِثاليّ، مِن هُنا نَحنُ نَقولُ "إلهُنا شَخصيٌّ Notre DIEU est personnel ".

ومَعَ الرَّبِّ يَبدأُ أمرٌ آخَرُ وأَجمَلُ بِما لا يُقارَن، وهُوَ الامتِلاءُ مِن يَسوعَ، عِندَهَا يَنتَقِلُ المُؤمِنُ الحَقِيقيُّ بهِ مِن مَجدٍ إلى مَجدٍ لا يَنتَهي، وتَكونُ سِيرَتُه وأعمَالُهُ وتَعامُلُهُ مَعَ الآخرين "عَملًا فنّيًّا كامِلًا وجَامِعًا" تَشبُّهًا بِالأصيلِ الَّذي هُوَ المَسيح.

وهذا ما جَعَلَ التَّصاويرَ المَسيحِيَّةَ الفَنيَّةَ، مِن جِدارِيّاتٍ وفُسيفَساءَ وأيقُوناتِ "عملًا فنيًّا كامِلًا"، لأنَّها تُجَسِّدُ الكامِل.

ومَن يتأمَّلُها بإيمانٍ وبِعُيونٍ صائِمَةٍ، كما استفَاضَ القِدّيسُ يُوحنَّا الدِّمَشقيّ، يَذهبُ أبعدَ بِكَثيرٍ مِنَ الألَوانِ والتَّصاوير، لِيَدخُلَ في عَلاقَةٍ بَنَوِيَّةٍ مَعَ أبٍ سَماوِيّ، علاقةٍ تتخَطّى البُعدَين الظَّاهِرَينِ للأيقُونَةِ، العَرضَ والطُّولَ، لِتَصِلَ إلى البُعدِ الثَّالِثِ الرُّوحيّ غيرِ المَنظُورِ، إذِ الأيقُونَةُ نافِذَةٌ إلى المَلَكُوت. فَالتَّصاويرُ فيها إلَهِيَّةٌ صِرفٌ، ودائِمَةُ التَّجدُّدِ وإن كانت مُتشابِهَةً إلى حَدٍّ كَبيرٍ مَعَ سابِقاتِها.

ولا يَستَغرِبَنَّ أحَدٌ إن قُلنا إنَّه في كُلِّ مَرَّةٍ نَنظُرُ فيهَا إلى الأيقُونَةِ نَكتَشِفُ فيهَا شَيئًا جَدِيدًا، إذِ الجَديدُ فِيها تَجَدُّدُنا الرُّوحيّ، تَمامًا كما يَحصُلُ عِندَمَا نَقرَأُ الكِتابَ المُقَدَّس. فلو قَرأنا الآيةَ ذاتَها ألفَ مَرَّةٍ تُفتَحُ في ذواتِنا آفاقٌ جَديدةٌ تَنقلُنا إلى العُلى.

ولكنَّ كلَّ هذه الجَمالاتِ مُرتَبطَةٌ فينا، ومُتوقِّفَةٌ على مَقاييسِنا الّتي نَعتَمِدُها، هُنا والآنَ ولَيسَ غَدًا.

فَحَذارِ أن نَشطُرَ مِيراثَنا الأَبديّ والأَبَوِيّ السَّماويَّ، ونُبَدِّدَهُ ونَذهَبَ بِأرجُلِنا إلى بُؤرَةِ الوَحلِ، ونَنغَمِسَ فيها مِن رَأسِنا إلى أَخمصِ أقدامِنا، فننتَهي في غُربَةٍ جَهنَّميّةٍ مَعَ الخَنازِير، مُصِرّينَ فيها على خَطيئَتِنا وعَمَلِ السُّوءِ والشَّرِّ لا سَمَحَ اللهُ، مُتهاوِنين عنِ الشَّطارَة الحقّة أي أن نسلُكَ طريقَ العَودَةِ إلى بَيتِ أبينا السَّماويّ الّذي ينتظِرُنا بِفارِغِ الصَّبرِ لِيُلاقِينا في مُنتَصَفِ الطَّريقِ، ويُعانِقَنا ويُلبِسَنا حُلَّتنا الأُولى الّتي نَسَجَها لنا مِن ذَهَبِهِ الصَّافي، ومُرَحِبًّا بِنا ومُهَلِّلًا، مَعَ جَوقَاتِ المَلائكةِ والقِدِّيسِينَ وكُلِّ أهلِ السَّماءِ، فَرِحًا بِعَودَتِنا وانضمامِنا إلى مَصاف الأيقُوناتِ المُشِعَّةِ في مَلَكُوتِ السَّماوات.

خُلاصَةً، رَحمَةُ اللهِ كَبيرَةٌ إن تُبنا، وصُورتُنا الّتي هِي على شِبهِ خَالِقِنا، لا تَمُوتُ مَهما اشتَدَّ سَوادُ ليلِ الخَطيئَةِ الحالِكِ، بل تَبقَى بانتِظارِ قرارِ عَودَتِنا إلى حِضنِ أبينَا السَّماويّ كما فَعَلَ الابنُ الشَّاطر، طالِبينَ مُؤازَرَةَ الرُّوحِ القُدُسِ ليُلهِبَ قلبَنا مِن جَدِيد. هذا سِرُّ مَحبَّةِ اللهِ اللّامُتناهِية لَنا.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] Gesamtkunstwerk - Total work of art.