مذ أُلقِيَ عليه الوجود، و​لبنان​ لم يَنتَهِ مِن أسئلتِهِ، مِثلما لم يَنتَهِ مِن أحلامه. هو عَرِفَ كيف يتعهَّد الكلمةَ، إلهاماتٍ، وأفعالَ إيمانٍ بِجَدوى لا الشكَّ بل اليقين.

أن تكون متيَّقِناً من ذاتِكَ، يعني أنَّك موجود. هذه فصاحة لبنان التي بِها يُكالِمُ المَنطِقَ ويُقارِعُ اللامَنطِق، ويُصغي. أجل! قناعتُهُ أنَّه يَعرِفُ كيفَ يُصغي، متى إرتَفَعَ بَينَ النِعمَةِ والبؤس، فائضاً في المُجاهَرَةِ بذاتِهِ.

قد يَكونُ مِن الصَعب تَلَقُّفُ هذا، وهو وليد مَسارٍ حَمَلَهُ لبنانُ مِنَ الوجودِ الى العالَمِ، لا العكس. كيف لا، وهو ما إبتغى إلا أن يبدأ بِمُساءلَةِ نَفسِهِ بِما بعد الأسئلةِ، ليسمو الى ما هو أعلى مِنَ الكَينونَةِ الماديَّةِ؟!.

بَعضُ الأُمَمِ تُجاهِرُ أنَّ لَها مِن قَومِيَّتِها تَبيانَ حُجَجِها الحاضِرَة، وبَعضُ الأوطانِ تُفاخِرُ أنَّ في تأرُّضِها يَتَجَوهَرُ صَميمُها بِوَجهِ كَثيرينَ، وبَعضُ دوَلٍ تَعتَّدُ أنَّ لَها مِن جَبروتِها صَلابَة الإستِمراريَّة.

لبنان، وإن لم يَتَنَكّر لتِلك الحركيَّات، إلَّا أنَّه بَقيَ في قَلبِ الواقِعِ: صِنواً لِلواقِع. لا عالَمَ مِن دونِهِ، ولا عالَمَ إلَّا فيه. لماذا؟ لأنَّه وَحدَهُ الطالِعُ مَن عِقَدِ الكُلِّ، طارِحاً مَخاوفَ الكُلِّ من الكُلِّ، تلك التي يَخفيها الكُلُّ عَن الكُلِّ.

أوَّل غَيثِهِ، أنَّ فيه كُسِرَ طوق العُنصُريَّاتِ المُحتَكِرَةِ لِحُقوقِ الوجودِ بِوجودِها الأحاديِّ، والمُتِناحِرَةُ بالواجِباتِ الناكِرَةِ لِجَواهِرَ الآخَرينَ. كيف؟ بِعِنادِهِ في تآخي الإنسانيَّة المُتساوِيَةِ.

تِلكَ مُتَغَطرِسة، هو مُتواضِعٌ.

تِلكَ مُسَطِّحَة، هو مُهيبٌ.

تِلكَ واهيَة، هو صادِقٌ.

قِوامُهٌ الأرزُ الذي مِثلَهُ يَنمو الصِديِّقُ... وهو يَعرِفُ سَلَفاً أنَّ ما مِن صِديّق مُكَرَّم حَيثما هو، وفي زَمَنِهِ.

قُلنا: مَنبِتُهُ عِقَدُ الكُلِّ، وهي جُذورُهُ؟.

مَن لَيسَ له عِقَدٌ، لا مُستَقبَلَ لِتاريخِهِ، وحاضِرُه هوَّةُ عَقيمَةٌ. وبِمِعنىً آخرَ، هو في الوجودِ مِسارٌ لا أفُقَ فيهِ سِوى لَحظَةِ الهَلاكِ وهي آتيَةٌ حُكماً، كَونُها مَحصورَةٌ بَينَ الخُضوعِ لِلمَغاليق، وتَجاهُلِ المَخفيَّات، وإرتِضاءِ الإنحِرافِ.

هنا، في عِقَدِ الحِرمان، والمأساة، والآخَرِ المُختَلِفِ، قَلَقٌ إنسانيٌّ مُحَرِّكُهُ عُنفوانٌ قائِمٌ بَينَ وَجَعِ الأرضِ وِثَباتِ السَماءِ. بِهِ إمتِلاءُ الفَراغِ، ومُجابَهَةُ الخَوفِ، والإستِبسالُ في الشَهادةِ.

لبنانُ الجواب

كُلُّ مَكاسِبِ العالَمِ، المُتأتيَةُ مِن أُمَمٍ وأوطانٍ ودوَلٍ ما عَرِفَت العِقَد أو دَحَضَتها، نِهايَتُها... الَلحدُ. أيَنَ بَعدُ ما وَعَدَت بِهِ؟.

عِندَ إندِحارِ جَوابِها، يَندَحِرُ العالَمُ بِأسرِهِ مَعَها.

لبنانُ ما تَفلسَفَ في جَوابٍ. كانَ هو الجواب: أزَماتُ العالَمِ، أنا إختَبَرتُها، اسئِلَةً وألَماً وجِراحاتٍ. وهي ليست أزَماتِ إيمانٍ، بل أفعال. كُلُّها أزَمَةٌ إنسانيَّةٌ واحدة: أن تَكونَ حُرّاً. وهذا يَقتَضي أن تؤمِنَ أنَّ الحُريَّةَ لَيسَت تَوارياً بل فِعلاُ جاذِباً مِنَ الأمامِ. في الدَيمومَةِ. والدَيمومَةُ تَجَدُّدٌ لا إنتِظار، إرتِقاءُ دُهورٍ لا إنبِطاحاتُ عُبور.

مٌقلِقٌ هذا اللبنان، لأُمَم وأوطان ودوَل؟ للغاية! لأنَّ في قَبضَتِهِ مَفاتيحَ الحياة، بينما هي هَوَت في لاحَضاراتِ المَوت. وَكَم سَعَت لإطاحَتِهِ في مَهاويها، وسَتَظَلُّ طالما هيَ صَريعَة فَنائِها.

وَسيَبقى، هو المَرذولُ مِنها، المَسحوقُ لأجلِها، والمَصلوبُ عنها، مُقلِقُها... ولَكن قائماً لذاتِهِ وَلَها. هيَ المَحجوبَةُ في أخطائِها والمُحتَجِبَةُ في خَطاياها، وهو نَدَمُها.

وَسَيبقى لَها بالمِرصادِ، طالما فيه مَن يَصرخُ لَها: لا! هو العارِفُ أنَّها لا تَعرِفُ شَيئاً: هي تَبكي وما مَن يُعزّيها إلَّا هو.

وَسَتَكونُ أماسي، وسَيَكونُ فَجراً.

(الصورة بعنوان "أرز لبنان" مائيّة للرسام ادوارد لير-المدرسة البريطانيّة، ويعود تاريخها لـ21 أيار 1858)