يُتلى علينا في هذا الأحدِ، أَحدِ الدّينونَة[1]، مَقطعٌ مِن إنجيل متّى، يَفصِلُ الرَّبُّ فيهِ بينَ إنسانٍ وآخَرَ بِحَسبِ أعمَالِ الرَّحمَةِ والمَحبَّةِ، فيُكافئُ الأبرارَ بِالجُلوسِ عن يَمينِهِ في المَجدِ الإلَهيّ، وبِأن يَرِثُوا المَلكوتَ السَّماويّ، ويَتنعَّمُونَ مَعَهُ في الحَيَاةٍ الأَبَدِيَّة، بَينَما يُقيمُ المَلاعِينَ عن يَسارِهِ ويُرسِلُهم إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ، إلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ.

هذا إنجِيلٌ رَهيبٌ لِيومٍ مَرهُوبٍ، إذ إنَّ الرَّبَّ يُصدِرُ أحكامَهُ المُبرَمَةَ بِالبَشَر. ولكن، ماذا لَو أرَدنا إصدارَ أحكامِنا بحقّ الله؟ يا لَهُ مِن سُؤالٍ صاعِقٍ ووَقحٍ وفيه الكَثيرُ مِنَ التَّجديف! لِم هذا السُّؤالُ وكيفَ يَخطُرُ بِالبَال؟.

في الحَقيقَةِ هناكَ العَديدُ مِمَّن أَطلَقُوا أَحكامَهُم على اللهِ وأدانُوه، وقَبلَ عرضِ المَوضوعِ ومُحاوَلَةِ الخُروجِ بِما يُفيد، فَلنَطرَحِ السُّؤالَ التّالي: ما المقصودُ بِكَلِمَةِ "دَينُونَة" في الكِتابِ المُقَدَّس؟.

الفِعلُ في اليونانيّة هُوَ الحُكْم KRINO، وحُكمُ اللهِ يَأتي مُنَزَّهًا، لأن اللهَ وحدَهُ كامِلُ الصَّلاحِ، ومُجَرَّدٌ مِن كُلِّ الأهواءِ المَعيبَةِ، فكيفَ لنا نحنُ البشرَ أن نَحكُمَ على المُنَزَّهِ الّذي هُوَ خالِقُنا؟ مُستَحِيل.

ولا يمكنُ لأيِّ حُكمٍ أن يَكونَ صَحِيحًا إلّا بعدَ أن يُصبِحَ مُطلِقُ الحُكمِ على يَقينٍ مِن جَميعِ الحَقائِقِ المُتَعلِّقَةِ بِالقَضيَّةِ، ودُونَ أيّ تَشويش. فهل هذا يَنطبقُ على الذين يدينون الله؟ بالطبعِ لا.

إذًا، لِنَبحَثْ عَن تَصنِيفٍ آخَرَ لِمَا تَفَوَّهَ بِهِ مَن عَبَّرَ عن غَضَبِهِ تُجاهَ اللهِ أمثالَ الأديبِ الفَرنسيّ الساخِر Jules Renard[2] الذي كَتَبَ: "إنَّ القِطَّةَ التي تَنامُ عِشرينَ ساعَةً في اليَومِ رُبَّما تَكونُ أنجَحَ مَا فَعلَهُ الله. نَعم، اللهُ مَوجُودٌ، لَكِنَّهُ لا يَسمَعُ شيئًا، ولا حتّى أكثرَ مِنّا. آه! لديهِ ابتِسامَةٌ إلهِيّةٌ! والأمرُ مَتروكٌ لنا لإصلاحِ مَظالِمِه! نحنُ أكثَرَ مِن مُجَرَّدِ آلِهَة. لا أعرِفُ إذا كَانَ مَوجُودًا، لَكِن سَيكونُ مِنَ الأفضَلِ، لِشَرَفِهِ، ألّا يَكون".

يَقُولُ المَرءُ لِلوَهلَةِ الأُولى إنَّ هذا الكَلامَ تَجدِيفٌ ويَدِينُ صاحبِه، ولكِن يَجِبُ ألّا ننسى أنَّ اللهَ تَجَسَّدَ وصَارَ إنسَانًا مِن أَجلِ كُلِّ البَشَر، وهُوَ الّذي قالَ: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى"(متى ١٢:٩).

حاشا أن أَكونَ أَدينُ هذا الأديبَ لأننّا كلَّنا مًرضَى وبحاجةٍ للطَّبيبِ الرَّب يَسوعَ المَسيح، كما وَجَبَ عَلينا أن نَعرِفَ ظُروفَ كُلِّ شَخصٍ مِن أجل إحاطَةٍ أفضَلَ لِكُلِّ نَصٍّ، ومِن أجلِ فَهمٍ أَعمقَ لِكُلِّ قَول. ولنَقُلْها بِصَراحَةٍ، كم مِن مَرَّةٍ نَحنُ غَضِبْنا مِنَ اللهِ وقُلنا شَيئًا مُماثِلًا لـRenard.

فَهذا الأَديبُ لم يَعرِفْ طُفولَةً مُستَقِرَّةً. هو وُلِدَ في أُسرَةٍ مُفَكَّكَةٍ، لم تُحِبَّهُ والدَتُهُ (التي كانت مُثقَلَةً بِجِراحِها)، ولقّبَته بـ "شَعرِ الجَزرة Poil de Carotte". وعندما كَبُرَ وبَرَعَ في الكِتابَة، التي كانت ملاذَه مُنذُ الصِّغَرِ مترجمًا فيها مَشاعِرَهُ وآلامَهُ، أَصدَرَ مُؤلَّفًا بهذا اللَّقَبِ نفسِه.

رَافقَتْهُ آلامُهُ الطُّفولِيَّةُ طَوالَ حياتِه حتّى مَوتِهِ المُبكِر، في الـ٤٦ مِن عُمرِه، وظَهَرت جَليًّا في كتاباتِهِ الأدَبِيَّة. إنتُخِبَ عُمدَةً لِمنطَقَتِهِ، على غِرار والِدِهِ، وكان ناجِحًا وشَرِيفًا ومُحِبًّا للتَّعليمِ وللعَطاء، وأَسَّسَ جَمعِيَّةً لِتَوزِيعِ القُرطاسِيَّةِ على الأولادِ مجَّانًّا.

إنصَهَرت كِتابَاتُ هذا الكاتِبُ وأفكارُهُ بِآلامِهِ وخُبرَتِهِ الشَّخصِيَّةِ، فكانَ اللهُ المَلومَ الأوَّلَ لأنَّه، حسب رأي الكاتِبِ، لم يتدَخّلْ للحَؤولِ دُونَ مُعاناتِهِ، وسُوءِ تَربيتِهِ، والليالي التي بَكى فيها وَحِيدًا، في ظِلِّ جَوٍّ عَائليّ قاسٍ جِدًّا.

وهناك استِشهادٌ ثانٍ أَتوقّفُ عِندَهُ للكاتِبِ الفرنسيّ Stendhal[3]، يَقولُ فيهِ: "العُذرُ الوَحيدُ للهِ، أنَّهُ غيرُ موجودٍ".

وهذا الكاتِبُ أيضًا، كان طفلاً غيرَ سعيدٍ، يَكرَهُ والِدَهُ، ويَحزَنُ على والِدَتِهِ التي أَحبَّها بِشَغَفٍ، والّتي فَقَدَها عندما كانَ في السَّابِعَةِ مِن عُمرِه. وبِالرُّغمِ مِن أنّهُ أصبَحَ ضابِطًا عَسكرِيًّا نَاجِحًا في جَيشِ نابُوليون، وعُرِفَ بِرَباطَةِ جَأشِهِ، وتَمَّ تَعيينُهُ مُمَثِّلًا لِبلدهِ في إيطاليا، إلّا أنَّ جِراحاتِ طُفُولتِهِ ظَلَّت تُرافقه، وظَهَرَت في كِتاباتِه. وقد عانى لاحِقًا مِن عاهَاتٍ جَسدِيَّةٍ، ومِن أمراضٍ أَنهَكَتْهُ بِقُوَّةٍ، وسَبَّبَتْ له أَرَقًا حادًّا، وأوجاعًا مَريرةً.

كان يَنظُرُ إلى الحَياةِ كَحفلَةِ رَقصٍ تَنكُّريَّةٍ، لذلكَ كانَ يَستَمتِعُ باقتِباسِ أسماءٍ وَهمِيَّةٍ لِمقالاتِهِ، تُمَثِّلُ شَخصيَّاتٍ تَسخَرُ منَ المُجتَمعِ، ويَكتَنِفُها الكَثيرُ مِنَ الغُموض.

وتَمَيَّزَتْ كِتاباتُهُ بِالوَصفِ التَّاريخيّ لِزَمانِهِ، بِالإضافَةِ إلى السُّخريَةِ والتَّحالِيلِ النَّفسِيَّةِ للأشخَاصِ التي كانت تتنَاوَلُها تلكَ الكِتابات.

السُّخريةُ تُرجِمَت غَضَبًا على المُجتَمَعِ في حين أنَّ الأُمورَ النَّفسِيَّةَ كانت بَحثًا وعِلاجًا شَخصِيًّا. وقد عَبَّرَ مِرارًا عن لَذَّتِهِ الكُبرى، والتي قد تَكونُ مِن خلالِ التَّنكُّرِ بِزَيِّ امرَأةٍ ألمانِيَّةٍ شَقراءَ، والتَّجوّلِ في شَوارِعِ بارِيس.

أشهَرُ مُؤلَّفاتِهِ Le Rouge et Le Noire الأحمرُ والأسود، الذي يَتناوَلُ شَخصيَّةً حائِرَةً لِتَكونَ بَينَ صُفوفِ العَسكَرِ أو صُفوفِ الإكلِيرُوس.

وقَدِ اختَلَفَ المُفَسِّرونَ حَولَ هَذَين اللَّونَين: مِنهم مَن قالَ إنَّ الأحمرَ يَرمُزُ إلى الجُندِيَّةِ، والأَسودَ إلى الإكلِيروس، ومِنهم مَن رأى أنَّ اللَّونَ الأحمرَ يُشيرُ عِندَهُ إلى الآلامِ، والأَسودَ إلى المَوت.

قد تَبدو هَذِهِ التَّفاصيلُ مُمِلَّةً بَعضَ الشَّيء، ولكِنَّها في غَايَةِ الأهمِيَّةِ، لأنَّها تُفصِحُ عَمَّا كان يَعيشُه كُلٌّ مِن هَذَين الأديبَينِ، مِن عَدَمِ استِقرَارٍ دَاخٍليّ ومِن اضطرابٍ وتشوُّش، وكانَ لَومُهُمُا الأكبَرُ والأوَّلُ على الله.

تُرى لماذا لامَا الله؟.

الجَوابُ أنَّ كُلَّ نَفسٍ تُدرِكُ في عُمقِ أعماقِها أنَّ اللهَ الطَّبيبُ الشَّافِي، والأبُ الحَنونُ والحاضِنُ والمُحِبُّ، وتَتَوَقَّعُ تدَخُّلَه. ومَا مُهاجَمَتُه إلّا اعتِرَافٌ بِوُجُودِهِ وأُبُوَّتِه.

تأتي الخُلاصَةُ والعِبرَة، بأنَّ المَسيحَ مَحَبَّةٌ لامُتنَاهِيةٌ ولا حَلَّ إلّا بالالتصاقِ بِه، وقد خَلَقَنا لِنَكُونَ كَذَلِك، كائناتٍ مُحِبَّةً لأنْ وَحدَهَا المَحبَّةُ تَشفِي. فللّاهوتٍ وَجهٌ يُشرِقُ وقَلبٌ يَشعُرُ وأيقُونَةٌ مُتَجَسِّدَة. والإنسانُ الذي لا يُحبُّ، مريضٌ وقاتلٌ لذاتِه وللآخرين.

وتبقى هذه الآية منتصبةً أمامنا إلى يوم الدينونة: "أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ مُخْتَبِرُ الْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ"(إرمياء ١٠:١٧).

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] الأحد الثالث من التهيئة في زمن التريودي

[2] 1864-1910

[3] Marie-Henri Beyle - pen name Stendhal 1783-1842 - « La seule excuse de Dieu, c’est qu’il n’existe pas »