في العِلم الجيوسياسيِّ، يكون التاريخ احياناً ضحيَّة الجغرافيا، والحاضر ضَحيِّتهما في آن.

على خَبطِ هذا الواقِعِ، واجَهَ لبنانُ وجوده الذي أُعطيَ له من فوق، جوهراً يتعالى في زمانٍ ومكانٍ، وقد طَمَعَت به الصحارى المُطوِّقة له، والبحر المَرميُّأمامه.

وكلاهما، البحر والصحارى، جوهرٌ واحدٌ مُناقِضٌ له. هما إمتدادٌ زاحفٌ طَمَعاً بإمتلاءٍ، وهو مَلءٌفائِضٌ مِن إمتلائه في رِحاب العُلو. هما في خُضوعٍ مُترامٍ، وهو في أنَفَةٍ لا تُدانى. لذا حاولاإيقاعَهُ وإخضاعَهُ مُذ كانَ في المَهدِ، بِقَصدِإلغاءِ مكانِهِ وزمانِهِ. وهو في إلفًتِهِ مَع الزمان والمكان، غدا حَصادا وَفيراً، فألقياه بين حدودهما، وإنقضَّا عليه بِحَدِّ السيف علَّهُما بذلك يُقصيانِهِ الى ذُرى ظلاميَّاتِهِما، فَيَستَكينا مِن وَطأتِها وقد إبتَلَعَتهُ، وبَقيا.

أفي ذلك قوَّتهما؟.

هُما مِن خُبثٍ، الغائِّي، مُتأرجِحٍ بَين الفعل والقوَّة، بالتذاكي السياسيِّ تارةً والعُنفي أطواراً، وهو في الكليَّة للقوَّة فِعلٌ، وللفِعلِ قوَّة، بالحقِّ الذي هو عُبورٌ مِن الزائِلِ النهائي الى اللانهائي.

أفي ذلك حِوارُه بَين الجَوهَرِ والوجودِ؟.

الأصَحَّ: لِمَهذا الحوار؟ لكي تَتَسَرمَدَ الكلمةُ بِوَجهِ مُعضلاتِ الوجود، فلا تَطويها أغوار الشرّ. والصحارى المحيطة، كما البحر المُستعادُبَين المدِّ والجَزر، كلاهما لا إنتساب الى عدميَّتهما. كلاهما اللاكلمة، مَختومٌ على فَمِهما بِعَدَمِ النُطقِ،فلا يَنقبضا إلاَّ على السُكوتِ المُترامي، ولا يُمكِن أن يكونا وطناً.

أمّا عبقريَّة فِعلِهِفَفي جَعلِهما، عِندَ كلِّ محاولةٍ مِنهما ضِدَّهُ، يَغرَقان أكثرَ فأكثرَ في وِحشة جَهلِهما لِذاتِهما... وللعالَم. فما تَمَكَّنا، ولو لمرَّةٍ، مِن إلغاء زَمانه ومَكانه بلازَمانِهِما ولامكانِهِما.

اليوم، الأقصى يحاول،إلى خُبثهما، الخداعَ لا مِن خارِج، بل مِن داخل. وهنا خَطَرٌغَيرُ مَسبوق.

قَبلاً كانَ فراغُ البحر والصحارى يَستنجِدُ لِتعبِئَةِ شَهواتِهما ضِدَّه، مِن دَواخِلَ طَليقةٍ تَستَجدي تَرَّبُعاً على كَراسٍ مِن وَهمٍ.

اليومَ، دَواخِلٌ مُستَعجِلَةٌ، بِكوابيسَ التأدلُجِ المُسلَّحِ، لطَوَفانٍ يُغرقُالصحارى والبحرِمعاً، تَستَنجِدُ بِهِما للقَبضِ عليهِ. لا لشيء، سوى لتَهيئة الجيوسياسيِّ الى إحتواءِ كُلِّ شيء في خِواءٍ لا سيادة فيهإلاَّ لِلتيهِ عن الحقيقة.فَلنَعتَرِف إذاً: هُم خوارجُ لا عَن وجودِ لبنانَ وجَوهرِهِ فَحَسب، بل عَن التزامِهِ الإنسانيَّة المُتَمِكِّنَة، القادرةَ على المعرِفةِ والجَمال والأمَل. على الصِدق.

قيمةٌ لامحدودةٌ

ما التَزَمَ لبنانُ الإنسانيَّة إلاَّ في سَبيل تَحَرُّرِه وتَحَرُّرِها، لا لتأطيرها مؤدلَجَةً في إرهابيَّةِ فِكرٍأو عُنصريَّةِ عِرقٍأو تطرُّف دِينٍ، سَبيلاً لإستِعبادِها وحَذفِها مِن مُعادَلة الحياة. وأكثر، هل لِجَوهَرِهِ ووجودِهِ مِن مِعنى خارجَ الحريَّة؟.

مِن دون الحريَّة، لبنانُ صَريعُ تآلُفِ البحر والصحارى، وما إليهما، ضِدَّه. صَريعُ لاعقلِ هذا التآلف. وهو عَرِفَ، لا بل أتقَنَ جَعلَ العقلِ، وهو وضوحٌ، وَليدَ المكانِوالزمانِ. من دونِهِ تتشوَّه الحقيقة، فيُنسَف الوجودُ والجوهرُ في آنٍ، في غُموضِ الظلاميَّات القاتِلة.

حياةُ لبنانَ في مَوتِهِ عن ذاتِهِ... وعن الآخرينَ، على إسم الحياةِ المُتَمِّمَةِ نفسَها بِنَفسِها! ذاك عُنفُهُ المُستقيمُ الذي بِهِ يَدوسُ عُنف الظلامياَّت التَدميريِّ.

هذه القيمة بلامحدوديَّتها، التي إلتَزَمَها، وكَلمَنَ بِها الزَمان وَوَطَّنَ المكانَ، تُتعِبُهُ، لَكن مِنها راحتهُ.

الخطورةُ، أن تَكسُرَه دَياجيرُ الدَواخِلِ، القابِضَةُ عَليه بسطوَة الجَهلِ والعُنفِ، مِن ذاتِهِ. أذ ذاكَ تُصرَعُ الإنسانيَّة بالشرِّ. فَتَكونُ نِهايَتُها، لا نِهايَتَهُ فَحَسب.