دخل اليوم المؤمنون المسيحيون الذين يتبعون التقويم الغربي، فترة الصوم الكبير، وفق المفهوم المتناقل من جيل الى جيل حول عادات الصيام والطريقة المتّبعة للمؤمن ليسير على الطريق التي انتهجها قبله آباؤه واجداده. من المؤكد ان الصوم يتمتع بمفهوم ديني عميق ومهم ويقضي بترفّع الانسان عن الامور المادية كي يتقرب من اخيه الانسان ومن الله، اما المفهوم الديني للانقطاع عن اكل اللحوم والألبان والأجبان، انما يصب في خانة وضع الاموال التي يتم توفيرها، في تصرف المعوزين والفقراء.

هذا هو المفهوم العام للصوم. ولكن في هذه الفترة تحديداً، وفي لبنان فقط، يتساءلالكثير من المؤمنين عما اذا كانت هذه التقاليد لا تزال صالحة وتخدم معناها الديني الحقيقي، لانّه في ظل الظروف الاقتصاية والمالية والمعيشية الحالية، اصبحت الاوضاع غير تقليديّة، لا بل يمكن ان تكون معكوسة. حتى الامس القريب، كان من يستعيض عن اللحوم بالاسماك، يعتبر بأنه يوفّر اموالاً ليخدم بها هدفه الديني من الصوم، اما اليوم فسعر الاسماك يضاهي سعر اللحوم ويتخطّاه في كثير من الاصناف، وبات من يتناول السمك من المحظيين ويُنظر اليه على انه من الاثرياء. وللتذكير فقط، كان غالبية الرسل وتلاميذ المسيح من صيادي الاسماك، وكان السمك الطعام اليومي لغالبية الناس والاقل سعراً فيما كانت اسعاراللحوم اعلى بكثير.

مثال آخر يمكن الركون اليه في ايامنا هذه، وهو ان آباءنا واجدادنا استعاضوا عن اللحوم والالبان والاجبان، بالحبوبوالمحاصيل الزراعية من خضار وفواكه، اما في لبنان اليوم، فمن النادر الوقوع على انواع من الخضار والفاكهة بأسعار زهيدة، حتى انّ المرء يفكّر مرتين ليتناول ما كان يُعرف بأكل الفقراء على مثال اللبن واللبنة والاجبان البيضاء (وليس الاجبان الفرنسية التي كانت ولا تزال غالية الثمن)، والحبوبمن عدس وحمص وأرزّ وبطاطا وبندورة وخيار وباذنجان وكوسى ولوبياء... كل هذه المواد الغذائية التي كانت في كل بيت، اصبحت مفقودة من المنازل ويتفاخر من يحضرها بأنّه خرج عن العادة. حتى "منقوشة" الصعتر والزيت او "بيتزا" الخضار، اصبحت من "المحظورات" بالنسبة الى العديد من الناس نظراً الى اسعارها النارية في الاسواق، وهو مردّه الى امرين: الاول ان المسؤولين السياسيين والماليين والاقتصاديين والتجار وغيرهم... لا يعيشون مفهوم الصيام ولا يقاربون التعاليم الدينية لايّ ديانة سماوية، ويكتفون بمفهومهم الخاص لديانتهم الارضية. اما السبب الثاني فيعود الى انّ غياب الرقابة الفعليّة والعقوبات الرادعة وهو ما يدفع اصحاب السبب الاول الى توسيع حقل عدم مراعاتهم للناس ومصالحها، والامعان في تضخيم الاسعار وممارسة الهدر والفساد الى حد غير مسبوق ولا سقف له.

انه مفهوم الصوم الكبير في لبنان، وقد انقلب رأساً على عقب، اذ يسأل المؤمن نفسه: ما فائدة الصوم عن اللحوم والاجبان والالبان اذا كان البديل (الذي من المفترض ان يكون بأسعار متهاودة يمكن لأي كان شراءه)، بسعر يوازي تلك الاسعار اذا لم يكن اعلى منها في كثير من الاحيان؟ عند الله الامور سهلة وبسيطة، فهو لا يتعلق بما يدخل الى الانسان بل بما يخرج منه، فالصوم ينجح دينياً اذا لم يخرجمن فمنا ومن انفسنا ما يؤذي الآخرين ويعارض مبادئ المحبة وافعالها. ليس في الامر دعوة الى التخلي عن عادات الصوم او عدم الالتزام بها، بقدر ما هي دعوة الى التفكير العميق بوجوب ايجاد بدائل مقبولة في هذه الاوضاع الاستثنائية لارضاء الله وفق المعنى الحقيقي والهدف الاسمى للصوم ككل، لان الصوم عن الطعام ليس الهدف منه تنحيف الجسم او التبجح امام الآخرين، فهذا الامر يمكن القيام به في اي زمان ومكان ومن قبل الجميع، لكن الاهم تطويع الجسم لرغبة الروح.

صوم مبارك... حتى في لبنان.