كان مِن المُفتَرَض أَن يُقدّم مُنظّمو "نورد ستريم-2" الأَلمان، المُصادَقة النّهائيّة على هذا الاتّفاق "​الغاز​يّ"، وأَنْ تبدأ عمليّات تَوْصيل إِمدادات الغاز الرّوسيّ إِلى كُلّ أُوروبا، لولا نُشوب الصّراع في أُوكرانيا!. وكاد أَن يكون للمنازل والشّركات في أَلمانيا، مصدرٌ موثوقٌ للطّاقة النّظيفة، وغَيْر المُكْلفة، بينما كانت ​روسيا​ ستشهد زيادةً كبيرةً في عائدات الغاز!...

ولكنّ ما آلَت إِليه الأُمور عقب "الغزو" الرّوسيّ لأُوكرانيا، قد جعل الوضع مُربكًا للجَميع في أُوروبا، بدلَ أَن يكون مُريحًا!، فالمسألة ليست مُجرّد خطّ أَنابيب بالطّبع، بل تتخطّاها إِلى إِدارةٍ للسّياسة الخارجيّة لم تكُن تَروق للولايات المُتّحدة الأَميركيّة، لا بل كانت تُشكِّل بالنّسبة إِليها، مصدر أَرقٍ بدأَ يتّجه إِلى أَن يَكون مُزمنًا!... فالأميركيّ لا يُريد أَن تُصبح أَلمانيا أَكثر اعتمادًا على الغاز الرُّوسيّ، لأَنّ التّجارة تبني الثّقة، والأخيرة تُؤَدّي إِلى تَوْسيع الأَعمال التّجاريّة وغير التّجاريّة... وكُلّما ازداد دفء العلاقات، يُرفَع المَزيدُ مِن الحَواجز التّجاريّة بَيْن أَلمانيا وروسيا، ويُستَتبَع ذلك بتخفيف اللوائح والشُّروط، وانتعاش قطاع السّفر والسّياحة، وإِنشاء بُنيةٍ أَمنيّةٍ جديدةٍ بَيْن البلدَيْن.

عسكريًّا، عندما تكون أَلمانيا وروسيا دولتَيْن صديقتَيْن وشريكَتَيْن في التّجارة، ليْسَت ثمّة حاجةٌ إِلى قَواعد عسكريّةٍ أَميركيّةٍ، ولا حاجة إِلى أَنظمة صواريخ وأَسلحة أَميركيّة باهظة الثّمن، ولا حتّى إِلى وجود "حلف شمال الأَطلسيّ"!.

وما يُؤَشِّر إِلى أَنّ الدبّ الرّوسيّ "مرتاحٌ على وضعه"... أَنّ روسيا لا تستعجل الحَسم... وهي تُحاوِر... ولا توقِف الحربّ!. وفي سياقٍ مُتّصلٍ دعا "مصدرٌ روسيٌّ" إِلى إِقامة "المُقارنة بَيْن الهُجوم الرُّوسيّ على ​كييف​... والأَميركيّ على بغداد.

وأَمّا ماليًّا، وحينما تكون أَلمانيا وروسيا شريكتَيْن، فلَيْست ثمّة حاجةٌ إِلى التّعامُل مع صفقات الطّاقة بالدّولار الأَميركي، أَو تخزين سندات الخزانة الأَميركيّة لمُوازنة الحسابات... كما ويُصبح في الإِمكان إِتمام المُعاملات بَيْن شُركاء الأَعمال مُباشرةً، وبعُملاتهم الخاصّة، ما يُساهم في خَفْض قيمة الدُّولار في شكلٍ كبيرٍ، وإِحداث تحوّلٍ كبيرٍ في القُوّة الاقتصاديّة...

ولكن في المُقابل، فإِنّ تعليق أَلمانيا افتتاح خطّ "نورد ستريم- 2"، يُضرّ بها أَكثر ممّا يضرّ بروسيا لسببَيْن اثنَيْن:

*الأَوّل أَنّ حاجة أَلمانيا إِلى الغاز الرّوسيّ لتشغيل اقتصادها... أَكبر مِن حاجة روسيا إِلى تصريف مخزونها الهائل مِن الغاز، إذ يُمكن موسكو أَن تُعوّض اقتصاديًّا مِن خلال شراكتها مع الصّين، على سبيل المِثال لا الحصر، كما وقد يكون لرُوسيا أَكثر مِن خطّةٍ بديلةٍ!... واستطرادًا: هل تردّ موسكو على إِخراجها مِن "نظام سويفت"، بوَقف ضخّ الغاز إِلى أُوروبا؟.

كما وأَنّ في مُقابل العُقوبات الغربيّة... القاضية بتَجْميد نصف الاحتياطيّ الرُّوسيّ مِن العُملات الأَجنبيّة... ثمّة معلوماتٍ عن احتياطيٍّ نقديٍّ عند بوتين، وقد احتسبه الرّئيس الرّوسيّ على الورقة وبالقلم، وخصّصه لزمن الأَزمة المُستَفحلة مع أُوكرانيا!...

وأَمّا السّبب الثّاني فمردُّه إِلى أَنّ الرّئيس الرّوسيّ ​فلاديمير بوتين​، قد أَظهر –بحسب بعض التّحليلات– أَنّه حتّى الآن، ماهرٌ في التّدقيق في حساباته السّياسيّة الدّوليّة، وأَنّ الأَمر له... فيما "فرق العملة" يدفعه شعبٌ أُوكرانيٌّ مُسالمٌ، بين سندان العمّ سام... ومطرَقة بوتين!...

وعليه، فإِنّ السّبب الرّئيسيّ لمُعارضة إِدارة الرّئيس الأَميركيّ ​جو بايدن​ مشروع "نورد ستريم-2"، إِنّما هو لكَونِه ليس مُجرّد خطّ أَنابيبٍ عاديٍّ، بل هُو بمثابة نافذةٍ على مُستَقْبلٍ تتقارب فيه أُوروبّا وآسيا معًا، في منطقةٍ تجاريّةٍ حُرّةٍ وضخمةٍ، "تزيد مِن قُوّتهما المُتبادَلَة، وازدهارهما المُشترَك، في مُستقبَلٍ، تصبح الولايات المُتّحدة خلاله مُستبْعدَةً ومُحبطةً"...

بَيْد أَنّ الوَجه الآخر للقِلادة، يتحدّث عن "غربٍ ينبُذ روسيا" ويقول أَصحاب هذا الرّأي إِنّ موسكو الآن باتت "في ظُلّ التأهُّب النّوويّ"، وثمّة أَيضًا مِن يرى أَنّ "الخاسر الأَكبر" إِنّما هو الاقتصاد الرّوسيّ!؟.

فأَيّ النّظريّات السّياسيّة ستكون لها كلمة الفصل؟ وما موقع النّظريّة الواقعيّة في هذا الإِطار؟ أَم أَنّ النّظريّة الليبيراليّة تنتصر عليها؟ وبكلامٍ آخر: هل وقع الجَيْش الرُّوسيّ في الوحول الأُوكرانيّة؟ وما هي مخارج هذه الحرب؟... ولكنّ السُّؤال الأَكبر يبقى: هل تنتفي بالشّراكة الرّوسيّة-الأَلمانيّة الحاجة إِلى حلفٍ أَطلسيٍّ؟.

وللحديث صلةٌ...