"أيها الربّ وسيّد حياتي، أعتقني من روح البطالة والفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال. وأنعم عليّ، أنا عبدك الخاطئ، بروح العفّة واتّضاع الفكر والصبر والمحبّة. نعم، يا ملكي وإلهي، هبني أن أعرف ذنوبي وعيوبي وألاّ أدين إخوتي، فإنّك مبارك إلى الأبد، آمين". هذه صلاة خطّها القدّيس إفرام السوري (السرياني) وخلّدها في الفكر الكنسي. يُردّدها المؤمنون يوميًّا طيلة فترة الصوم الأربعيني المقدّس. إنها صلاة التوبة بامتياز. فيها الكثير من العمق الروحي. وضعتها الكنيسة في فترة الصوم حتّى تخاطب ضمير المؤمنين في جهادهم الروحي، إذ فيها من المعاني والأبعاد ما يجعل كلَّ عضوٍ من أعضاء الكنيسة يقف أمام دينونته، وقفة حقيقة، تعرّيه من خطاياه، وتجعل منه إنسانًا ساعيًا إلى توبة صادقة. وفي هذا السياق، قال أحد الآباء الروحيين عن هذه الصلاة: "أنا أردّدها على مدار السنة في قانون صلاتي اليومي، وأنصح كلّ المسيحيين، أن يقوموا بالمِثل. لأنه بتردادها يُعطى روحُ التواضع والتّوبة والتمييز الروحي، إذ تمتلك نعمة كبيرة من الله".

إذا تعمّقنا في مضمون هذه الصلاة نراها تخاطب الربّ مباشرة بإعتباره سيدًا وحيدًا على حياتنا. هو معشوقنا الوحيد. هو سيّد حياتنا لأنه خلقنا ونحن صنع يديه. هو الذي اشترانا من لعنة الناموس بدمه الكريم، وحرّرنا من عبوديّة الخطيئة. وقد علّمنا بولس الرسول أنّنا نحن لسنا لأنفسنا، بل ليسوع الذي افتدانا بدمه. هذا الدم المهراق من جنب المخلّص، أوجب علينا أن نخرج من ذواتنا، من نزواتنا وشهواتنا وخطايانا، لنكون للمسيح فقط.

لهذه الصلاة فرادة لجهة الإشارة إلى أربعة خطايا يسلكها الإنسان. فقدّيسنا السريانيّ ينبّه إلى آفات البطالة، والفضول، وحب الرئاسة والكلام البطّال.

أهواء شرّيرة حذّرنا منها قدّيسنا، كي لا نسقط في فخّ الشرّير. روح البطالة (الكسل) قد يؤدي بنا إلى رفض مشروع القداسة، من خلال عدم عيش تعاليم الإنجيل، وبالتالي، فإنّ البطالة الروحيّة والجسدية تحدُّ من جهادنا الروحي والجسدي. عمليًّا نعرف أنّ الإنسان النشيط، يبتعد عن افتعال الرذائل والثرثرة، ويكترث لعمله ونشاطه في كافة المجالات. هكذا ايضًا النشيط في العلاقة مع الله.

وينبّهنا القدّيس أفرام من شرّ الفضول، الذي هو آفة ملاصقة تمامًا لشر البطالة. فهو يجعلنا ننظر "بفضولٍ" إلى الآخر بدل أن ننظر إلى داخلنا لنصحح أنفسنا.

أمّا فيما يختصّ بحبّ الرئاسة، فهذه إشارة إلى فساد علاقتنا بالقريب، لناحية تجاهله وجعله وسيلة رخيصة لاستعباده، شأن ما تعانيه البشريّة من ظلم الحكّام، ناسين أنّ المسيح جاء ليَخدم لا ليُخدم، فما من عظمة على الأرض إلا لمن يخدم؛ "من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً"(متى ٢٠: ٢٦).

ومن البطالة وعدم الإهتمام بالخلاص، يسقط الإنسان في الفضول وحبّ الرئاسة، ليصل بعدها إلى الحطّ من قيمة أخيه الإنسان، ليقذفه بالكلام البطّال.

بالمقابل، لا يكتفي السريانيّ بإظهار الآفات التي تشتتنا وتبعدنا عن الخلاص، إنما يوجّهنا نحو فضائل تساعدنا على معرفة الحياة الروحيّة السليمة. إذ نطلب روح العفّة، واتضّاع الفكر، والصبر والمحبّة. هذه نطلبها معترفين أنّنا عبيد خطأة. الإنسان القاصد لرآفات الله، لا يأتيه كالفرّيسي، إنّما بروح العشّار.

روح العفّة لا تكون فقط بطهارة الجسد، إنما بعفّة الفكر واللسان وكافّة الحواس. العفّة بالنسبة للقدّيس أفرام أولى الفضائل، لأن الإنسان لا يثمر أعمالًا صالحة ما دام موجودًا تحت نير الخطيئة. فالعفّة بابٌ من أبواب القداسة. ويكمل كلامه بإشارته إلى اتضاع الفكر. يقول بعض آباء الكنيسة إنّ اتّضاع الفكر يتحقق بأن يعتبر الإنسان ذاته أقل من الآخرين حتى أقل من الخليقة وأن يُعيد كلّ أعماله الحسنة لله. فالإتضاع يشمل القلب أيضًا، لذلك ورد في المزمور الخمسين: "القلب المتخشّع المتواضع لا يرذله الله". أما فضيلة الصبر فهي نتيجة حتميّة للتواضع، فالمتواضع يعرف خطاياه، وبالتالي يصبر بفرح على شدائد وتجارب الحياة، "الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص"(متى ٢٤: ١٣). ويتوّج القديس أفرام الفضائل بفضيلة المحبّة. فمن لديه العفّة والتواضع والصبر يملك فضيلة المحبّة، لأنه حيث تكون المحبة يكون الله، الذي هو المحبّة(١ يوحنّا ٤: ٨). الذي يعرف المحبّة، يُدركُ أنّ العطاء المغبوط ترجمة حقيقية لفعل المحبة، وهذا هدف رئيسي من أهداف الصوم. خلاصة صلاة التوبة أنّ الإنسان المتعفف والمتواضع والصبور والمحبّ لله هو صورة عن الإنسان الروحي المتحرّر من الأهواء، فبهذه الفضائل نرتقي سلّم الخلاص الذي وعدنا به الرب.

وفي ختام هذه الصلاة يدعونا السريانيّ أن نعرف ذنوبنا، من خلال ما نملكه من تواضع، وبالتالي ألا نسعى إلى إدانة أحد اذا ملكنا المحبّة، "فالمحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تفاخر ولا تنتفخ... تحتمل كل شيء ..."(١ كورنثوس ١٣). المحبّة ترفعنا والتواضع يثبّت إرتفاعنا، "فَمَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ"(متى ٢٣: ١٢). إن لم ندخل الصوم متسلّحين بالفضائل فلن ينفع الإنقطاع عن الطعام، بل يصبح حمية نسلكها.

سُئل جلال الدين الرومي ذات يوم: "نراك تقرأ وتكتب كثيرًا، فهلا أخبرتنا ماذا عرفت؟ فقال: عرفت حدودي". من هذا المنطلق سأتوقف عن الكتابة طيلة فترة الصوم، كي أدخل خلوة الصمت والصلاة. وحتى نعود ونلتقي بعد هذه الرحلة الصياميّة المباركة بإذن الله، أوصيكم بترداد صلاة القدّيس أفرام السريانيّ الصغيرة في الحجم، الغنية والعميقة بالبعد الروحي، ذاكرين أن الصلاة والصوم جناحان يرفعاننا إلى ملكوت السماوات، علّنا بذلك نستحق أن نعاين نور القيامة.