مِن أجملِ الأوصافِ للصَّلاةِ الرّبيّةِ المعروفةِ بصلاةِ "الأبانا"، المُصالَحة. هي مُصالَحةٌ ثَالوثيّةٌ مع اللهِ والآخَرِ والذَّات. وإذا تَمَّت نَشعُرُ أنَّنا نَرتَفِعُ ونُحلِّقُ مع الملائكةِ مُرَنِّمين: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»[1]

هذه المُصالَحةُ الثالوثيّةُ (الله، الآخر، الذَّات) مُترابِطةٌ فيما بينها بغيرِ انفصال، إلّا أنّ لِكلٍّ منّها خصائِصَها وشُروطَها.

في المُصالَحَةِ الأولى، اللهُ المُبادِر، فَهُوَ تَجسَّدَ وصارَ إنسانًا ما خَلا الخَطيئة، وتَقدّمَ إلى الصَّليبِ بِملءِ إرادَتِهِ، وقَدَّمَ نَفسَهُ ذَبيحةً حَيّةً وكفّارَةً عَن خطايانا[2]، وفَتحَ لنا بابَ السّماء، وأعادَ صورةَ اللهِ فينا التي أُظلِمَت بالخَطيئة، وها هُوَ يَنتظِرُنا لنشارِكَهُ مَلَكوتَهُ، ونَتوبَ عن خطايانا التي هي أصلًا غريبةٌ عنّا، والتي نَقتَرِفُها طَوعًا وإهمالًا وضُعفًا وابتعادًا عن الله.

الأمرُ مُتَعلِّقٌ بإرادَتِنا الحُرَّةِ، وبِطَلَبِ مُؤازَرَةِ اللهِ لِولادةٍ جَديدةٍ بِالرُّوحِ القدُس في توبَةٍ صادِقة. فالمُصالَحةُ الفِعليّةُ لا تَتِمُّ مِن طَرفٍ واحد، لِذا يَبقى علينا أن نُلاقيَ اللهَ في خَطوَتِهِ المَجّانيّةِ تُجاهَنا.

المُصالَحةُ الثَّانيةُ هيَ المُصالَحةُ مع الآخر. الوَضعُ الأمثلُ فيها أن تكونَ مِنَ الطَّرفَين. لكن إن تَعَذَّرَ ذَلِك بسَببِ رفضِ الآخَرِ للأمر، فهذا لا يعني بتاتَا ألا نَقومَ بِها مِن ناحيَتِنا. فعندما قالَ الرَّبُ "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ[3]"، قَصَدَ بِذلكَ ألّا نكونَ في حالةِ عداوةٍ مع أحدٍ، لكي نبقى أنقياءَ القلوبِ وذَوي نوايا صافيةٍ، إذِ المَحبَّةُ دستُورُنا.

لكن نحن لا نَقدِرُ أن نُرغِمَ الآخرَ على أن يُبادِلَنا بالمِثل، فهذا شأنُه. بالمُقابِلِ نحنُ لا نربِطُ أعمالَنا بالمَردودِ الذي تُوَفِّرُهُ لنا، بل تَحقيقًا لِحُضورِ إلهِنا فينا. ويَجبُ أن ننتَبِهَ هنا جَيّدًا، فَإن كُنّا لا نَضمُرُ الحِقدَ تُجاه أيِّ إنسانٍ، ولا نَشعُرُ بِالعَدَاوَةِ تُجاهَه، لا بل نقومُ بأفعالِ المَحبّةِ هذا شيءٌ، بينما المُساوَمَةُ على الحَقِ والحَقيقَةِ شَيءٌ آخر.

فاللهُ ذاتُهُ أوصانا أن نَبتَعِدَ عن مَن يُصِرُّ على فِعلِ الشَّر: "وَإِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَاذْهَبْ وَعَاتِبْهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ وَحْدَكُمَا. إِنْ سَمِعَ مِنْكَ فَقَدْ رَبِحْتَ أَخَاكَ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ، فَخُذْ مَعَكَ أَيْضًا وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لِكَيْ تَقُومَ كُلُّ كَلِمَةٍ عَلَى فَمِ شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُمْ فَقُلْ لِلْكَنِيسَةِ. وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنَ الْكَنِيسَةِ فَلْيَكُنْ عِنْدَكَ كَالْوَثَنِيِّ وَالْعَشَّارِ." (متى ١٥:١٨-١٧).

ويُفَسِّرُ القدّيسُ يُوحنّا الذَّهبيّ الفَم هنا، أنَّ الهدفَ هوَ الإصلاحُ وخَلاصُ النُّفوس، وأنَّ إصرارَ الشَّخصِ على ارتِكابِ السُّوءِ يُشيرُ إلى "أن مَرَضَهُ قد صارَ غيرَ قابلٍ للشِفاء"، وبالتالي لا يُوجدُ أي شِركةٍ معه "لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟[4]"

الأمرُ مِفصَليٌّ إذًا، فلا مُساوَمَةَ بينَ الحَقيقَةِ والبَاطِل "وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْرًا وَلِلْخَيْرِ شَرًّا، الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُورًا وَالنُّورَ ظَلاَمًا[5]". هذا يَضَعُنا أمامَ مَسؤوليّةٍ إلهِيَّةٍ بأن نُسمّيَ الأشياءَ بأسمائِها دونَ مُحاباةٍ ورِياء، وإلّا فنَحنُ نُؤجِّجُ الشّرَ في نُفوسِ الآخرين، ونكونُ شُركاءَ فيه.

فمثلًا دَعا يَسوعُ هِيرودُسَ بالثَّعلب[6]، وحذّر بُولسُ الرسولُ تلميذَهُ ثيموثاوس مِن المُفسِدينَ وسَمّاهُم بالإسم[7].

المُصالَحَةُ الثَّالِثَةُ هيَ مَعَ الذَّات. قَد تَكونُ هَذِه مِن أصعَبِ المَعارَكِ لا بل هي أصعَبُها. شَرطُها الجَوهَريُّ الكَشفُ الذاتيّ بِالكامِلِ، والتَّغلُّبُ على الأنانيةِ وعِبادَةِ الذَّات، واكتِسابُ التَّواضُع. وهذا يتطَلَّبُ شَجاعةً كُبرى. ولا تَتِمُّ هذه المُصالَحةُ إلّا بِاستِبدالِ عِشقِ الذّاتِ بعِشْقِ الله، وخِارِجَ ذلكَ ظَلامٌ وأنانيةٌ قاتِلةٌ على كلِّ المُستويات.

كذلكَ صَلاةُ الأبانا سُلَّمٌ إلى السَّماء. وكُلُّ مَن يتبنَّاها هو أمامَ مَسؤوليّةٍ كبيرَةٍ تتلَخَّصُ بأن يُتَرجِمَها أفعالًا. وبالتَّالي، عندما نَطلُبُ لِيأتِ مَلكوتُكَ، فهذا يعني أنّنا مَلتَزِمُونَ بِالعيشِ بَمَفهومِهِ فَنُحَقِّقُهُ هُنا على الأرض، ونُريدُ فِعلًا أن نَكونَ أبناءَ الله.

استطرادًا، نَجِدُ في الحضاراتِ القديمةِ كلامًا عَلى أُناسٍ "نِصفُ آلهة أو أبناءُ آلهة". كانوا يَتّخِذونَ هذا النَّسبَ لِدَعمِ تَسَلُّطهم وتَنفيذِ مآرِبهم. بينما مَعَ المَسيحِ، وصلاةِ "الأبانا" تَحديدًا، إن عِشنَاها بِمِلئها، لا نَكونُ نِصفَ آلهةٍ فَحَسب، بل آلهةٌ بِالنِّعمَةِ والحَقِّ، ومَسكِنًا له.

وهناكَ قولٌ جميلٌ في فنِّ التَّصميمِ المنزلي: "الإنسانُ هوَ المَنزِلُ والمَنزِلُ هوَ الإنسان"[8]. يمكننا تطبيقُ هذا القول بسهولةٍ مع الله الذي دعانا لنكونَ مَسكَنًا لهُ "إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا" (يوحنا ٢٣:١٤).

وفي السّياقِ ذاتِه، يَكتُبُ الباحثُ والمُتخَصِّصُ في عُصورِ ما قَبلِ التاريخِ في الشرقِ الأدنى François Valla، في مؤلَّفِهِ "الإنسانُ والمَسْكَنُ[9]"، يَكتُبُ "لطالما شَعرَ البشرُ بالحاجةِ إلى بِناءِ مَساكِن، لكنَّ العديدَ مِنَ الحيواناتِ تَفعلُ الشيءَ نفسه." ويُكمِلُ أنَّ ليست فِكرةُ المَنزِلِ مُتطابِقَةً بَينَ الأفراد جَميعًا، فَمِنهُم مَن يَحلُمُ بِقُصورٍ، وآخَرون بغيرِها، والأمثِلَةُ عَديدَةٌ ومُختلفة. صحيحٌ أنَّ كلمةَ مَنزِل هيَ نفسُها، ولكنَّ مضمونَها يختلفُ بين النّاس.

والخُلاصَةُ إذًا، هل إنَّ رغبَتَنا بالمَنزِلِ تَجعَلُنا نُهمِلُ مَسكَننا الذّاتي أي شَخصَنا؟ وهل حَقًّا نحن نَعي أنَّ كلَّ كَلِمَةٍ في "الأبانا" مِدماكٌ لِمَنزِلِنا الأبديّ المَبنيّ على الصَّخرةِ الّتي هِيَ يَسوع؟

فَهذِهِ الصَّلاةُ تنتَصِبُ أمامَنا في الدّينُونةِ:

هل إنَّ سعيَنَا حقًّا لِيَتَقدَّسَ اسمُ اللهِ فينا؟ أم إنَّ جُهدَنا كُلَّهُ يترَكَّزُعلى تقديسِ اسمِنا بِالأُمورِ البَاطِلَةِ والمُلتَوِيَةِ والزَّائِفَةِ والمُنحَرِفَة؟

هل حَقًّا طَلَبْنا أن يَأتيَ مَلكُوتُ اللهِ حَيثُ وُجِدنا، أم رغِبْنا بِتَحقيقِ مَلكُوتِ أهوائِنا المَريضَة؟

هل حقًّا جاهَدْنا لِتَسودَ مَشيئَةُ اللهِ في كُلِّ ما نَوينا عمَلَهُ؟ أم جَعلْنا مَشيئتَنا تَسودُ وتتسَلَّطُ في خِدمَةِ مَصالِحِنا الشَّخصِيَّة؟

الأسوأُ مِن هذا كُلِّهِ أن نَكونَ قدِ استَعمَلنا اسمَ اللهِ زَيفًا وطمعًا فقط لكي نُحَقِّقَ مآرِبَنا فنكون عندئذٍ عثرةً للآخرين "لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ" (رومية ٢٤:٢).

في الخِتامِ نَقول، الرَّبُ يُريدُنا أن نَصنعَ مَسكَنَنَا مَعهُ، وهُوَ على كامِلِ الاستِعدَادِ في كُلِّ لَحظَةٍ لأن يَبنِيَ مَعَنا مَنزِلَنا إذا كُنَّا نُريد ذَلك.

إلى الرَّبِ نَطلُب.

[1] - إشعياء ٣:٦

[2] - "مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. (رومية ٢٤:٣-٢٥)

[3] - متى ٤٤:٥

[4] - ٢ كورنثوس ١٤:٦

[5] - إشعياء ٢٠:٥

[6] - لوقا ٣٢:١٣

[7] - "إِسْكَنْدَرُ النَّحَّاسُ أَظْهَرَ لِي شُرُورًا كَثِيرَةً. لِيُجَازِهِ الرَّبُّ حَسَبَ أَعْمَالِهِ. فَاحْتَفِظْ مِنْهُ أَنْتَ أَيْضًا، لأَنَّهُ قَاوَمَ أَقْوَالَنَا جِدًّا."

[8] L"homme c'est l'habitat Et l'habitat c'est l'homme

[9] L'Homme et l'habitat. L'invention de la maison durant la préhistoire Broché – 11 septembre 2008