لي وَطَنٌ سَرمَديٌّ. لا هو أبَديّ ولا هو أزَليّ، بَل الإثنان مَعاً.

لي وَطَنٌ، لا بِدايةَ لَهُ ولا نِهايَةَ، إذ هو في بَدءِ البِداياتِ كانَ، والى لانِهايَةِ النِهاياتَ كَينونَتَهُ.

كَما الله، الذي وَحدَهُ مُبدِئهُ مُذ كانَ التَكوينُ بِكَلِمَتِهِ، وإسمُهُ في كُتُبِ قُدسِهِ المَخطوطَةِ بِيَدِهِ وَيَدِ الإنسان خَليقَتَه. فلا هو يَتيمُ غامِضٍ، كما لا هو فِعل خطأ ولا فِعلَةُ خَطيئة.

حَسبُ سِرِّه أنَّه يَعلو إيماناً فَيَبتَدِع، وَيَبتَدِعُ فِكراً فَيَعلو، وقد صَكَّ تَعاهُداً بَينَهُ وَبَينَ الإنسانِ، وعِهداً بَينَهُ وَبَين الله، مِنهُما تَتَوَلَّدُ تَفاعيلُ المُطلَقِ. وإذ هو لا يُدرِكُ إنسانيَّتهُ إلَّا مُنضَويَةً في الألوهَةِ، فَهو تالياً مِن أقنومَينِ يَتواجَبانِ كَلُزومِ الجَسَدِ للروحِ: ماديٌّ مُرتَبِطٌ بِطَبيعَةِ الوجودِ، ومَعنَويٌّ مُرتَبِطٌ بِطَبيعَةِ الجَوهَرِ. ولا عَجَبَ فَهو الخَليقَةُ مَكَّبَرَة، كما أنَّه مُصَغَّرها، كما الريحُ تَتَضَمَّنُ ذاتيَّةَ الحَرَكَةِ.

بَعضُ الأوطانِ تَغاوَت فَتَهاوَت، وبَعضُها إرتَوَت فَتَمادَت، وَبَعضُها إنَتشَت فَغابَت. وهو يَرِثُها: مَن كانَت بِهِ طامِعَةً، ومن كانَت لَهُ مُناصِرةً. يُعقلِنُ الهَدَفَ فَيَختَلِقُ لَهُ رَكيزَةً في الزَمَنِ، وَيُقَولِب المُطلَقَ فَيَختَلِقُ لَهُ جُذوراً. وهذا جَبراً يَقودُنا الى سؤالٍ مِن بابِ فَلسَفَةِ الحياةِ: ما الدَليلُ الى حَقيقَتِهِ؟ هو بالذات، كَفِعلِ فاعِلٍ لا كَقوَّة، ذلك أنَّ القوَّة قد تَفشَلُ في العُبورِ الى التَحقيقِ. أمَّا هو فَيُقارِعُ الأخطارَ، وتُقارِعُهُ المَخاطِرُ... حَدَّ رَهبَةِ الزَوالِ.

أهو في صِراعٍ دائمٍ في مَدَياتِ المُحالِ، وفي إدراكِهِ انَّهُ يؤخَذُ ولا يُعطى؟ العلاقَةُ، تَحقيقٌ لا مَبدأ. تَجسيدٌ تائِقٌ الى نِضالِ الوَعي، لَطالَما تَعَمَّدَ بالدَمِّ. كأنِّي بِهِ في مُنازَلَةٍ مَع لالُبنانيَّاتِ العالَمِ، وهي أضدادُهُ: تَتَحَدَّاهُ، فَيَزيد وَعيَهُ ويُظهَرُ واجِبُ وجودِهِ. تَخسَرُ هي وتَغورُ، لا مِن ضَراوَةِ التَحَدِّي فَحًسب بَل بالتَبيِّينِ القاطِعِ. بِهِ يُدرَكُ أنَّهُ هو حِكمَةٌ، وهي تَصاغُرُ الأوجَبِ وتَجاهُلُ الأقصى... تَتَلَّهى بِحشرَجاتِ الَلحدِ.

رُنُّو المَعلومِ

أفي ذاكَ الهَدير، غَرابَةُ المَجهولِ الذي يُقاضي مَعرِفِتَهُ، بَعد زَمَنٍ؟ بَل قُل: رُنُّوَ المَعلومِ. والمِعلومُ اللبنانيُّ، في صُلبِهِ، إثراءٌ لأحكَمِ الأفعالِ، تِلكَ التي تَتَضِعُ ولا تُسحَقُ. لِذا تَراهُ دوماً أغور المَبادِئ والأفكارِ والآراءِ: تَتَوالَدُ، تَتَهافَتُ، تَتَناقَضُ، تَصطَبِغُ بالقَلَقِ، بالإضطِراب،ِ بالأحكامِ. وهو يُزاوِجُ بَينَ المَشادَّةِ والمَحَبَّةِ، بَيَن الأقناعِ والِقِناعَةِ، بَينَ الأرضِ والسماءِ، في تَعاشُقٍ بَينَ الفَكرِ والحَواسِ والعَواطِفِ. مُداوِياً، لا بالإنعِزالِ، ولا بالتَقَوقُعِ، ولا بالتَجزِئةِ. بَل بِلَهَبِ الوجدانِ لِوَعيٍّ يَبقى حاجَةً ماسَّةً لِلهادِفِ كَما لِلهَدَفِ... نَحو الغَيرِيَّةِ وإحتِضانِ الإختِلافِ.

أهوَ الحاضِرُ بُرهانُ تاريخِهِ؟.

لم يكن حاضِرُهُ تَسطيحُ تاريخِهِ بل إندفاعَةُ إقبالٍ على كَبائِرَ أحداثٍ، وَمَا يُقابِلُها مِن مُغالاةِ أخطارٍ، كأنَّما هو لإنبِلاجاتِ اللماذا، جَوابُ الصَميمِ. والصَميمُ مِرآةُ ذاتِهِ لِلعالَم.

بِكَلِمَةٍ: هو لا يُخدَع. وتاريخُهُ أصدَقُ مَن يَشهَد لَهُ أنَّه يَشعُرُ، يَفرَحُ، يَغضُبُ... لكن لا يَنتَحِر. في قِيمَتِهِ يَتَجَوهَرُ، وَلَو لَم يَكُن كَذَلِكَ وجودهُ لَما كانَ لَهُ وجودٌ.

وعَلَيهِ، صِراعُهُ لَيسَ بَينَ ما هو إنسانيٌّ وما هو غَير إنسانيّ بَل بَينَهُ وَبَينَ ما في الإنسانِ، كي لا يَختَّلَ التوازُنُ بَينَ الحَقيقَةِ وَضَرورَتِها، بَينَ العَدالَةِ وَثِمارِها.

هُنا، في شَوقِهِ الى سَلامٍ لا يَتَرَنَّح بِظلاميَّةٍ، وإنسانِيَّةٍ لا تَدينُ نَفسَها بِشُمولِيَّةٍ، وألوهَةٍ لا تُقصيها نِسبيَّة، لُبنانُ مأخوذٌ في أصَّحِ تَحدِيداتِهِ: السَرمَديُّ؟ بَل قُل: لُبنانُ الإلَهِيُّ!.