توقع الكثير من المحللين والمتابعين، عدم اندلاع حرب بين روسيا واوكرانيا، واستندوا الى معطيات عدة اهمها ان نتائج اي حرب ستكون خاسرة ولو بنسب مختلفة، ان بالنسبة الى اوكرانيا (ومن خلفها الغرب)، او بالنسبة الى روسيا التي تصارع للسيطرة على الدول التي تحدّها وضمان عدم اقلاق راحتها امنياً وعسكرياً وحتى استخباراتياً. لكن كل المنطق سقط على ابواب المصالح، وانطلقت الحرب بالفعل، وحملت تطوراتها الكثير من النتائج التي شكلت مفاجأة بالنسبة الى الكثيرين. ان مجرد دخول اوكرانيا في حرب مع روسيا شكّل مفاجأة بحد ذاته، لانها سرعان ما عانت من نتائج كارثية لجهة الاهداف، لانه حتى الآن لا يبدو انضمامها الى حلف شمال الاطلسي (الناتو) في متناول اليد، كما انها تحملت خسائر كبيرة بشرية ومادية من دون ان تقدر على استمالة الحضور العسكري الاجنبي على اراضيها، ان عبر الطائرات الحربية او عبر قوات قتالية على الرغم من كل الوعود التي تلقتها في هذا السياق، لا بل اكثر من ذلك، لم يوافق الاتحاد الاوروبي على اقامة منطقة حظر جوي فوق اوكرانيا وهو امر بالغ الاهمية بالنسبة الى صمود الاوكرانيين.

من الناحية العسكرية، تبدو الامور قاتمة بالنسبة الى اوكرانيا، ولو انها ليست عسلاً ايضاً على الروس، ولكن بالنسبة الى حصيلة الخسائر التي سجلت حتى الآن، ونسبة الى اندلاع حرب بين دولتين، ومع الاخذ بالاعتبار التضخيم الاعلامي من قبل الاوكرانيين والغرب للخسائرالروسية والتقليل المقصود لهذه الخسائر من قبل الروس، يمكن القول ان النتيجة "مقبولة" بالنسبة الى الدب الابيض فهو الذي يشن الهجوم ومن المعروف ان من يقوم بهذه الخطوة لا بد وان تكون خسائره فادحة خصوصاً في الايام الاولى من الحرب، وهو ما لم يحصل.

ولكن الخسائر تقدر بالجملة، من الناحية الاقتصادية... لن نتحدث عن اوكرانيا كون خسائرها بمثابة "تحصيل حاصل" ووضعها مأساوي في هذا السياق، ولكن بالنسبة الى الولايات المتحدة واوروبا وروسيا، فالوضع دقيق. لانه بالنسبة الى الاوروبيين، فإن اغلاق مجالهم الجوي امام روسيا التي ردت بالمثل، ينطوي على مخاطر اقتصادية كبيرة نظراً الى الكلفة التي ستتطلبها الرحلات من جهة، وكلفة استعادة الطائرات المتواجدة في روسيا من جهة اخرى، كما ان الروس سيكونون بمثابة "غير مرحب بهم" في الدول الاوروبية حتى اذا نجحوا في الوصول اليها، والامر نفسه يصح على روسيا التي ستعاني جراء انقطاعها عن معظم الدول الاوروبية.

اما من ناحية الغاز والقمح، فإن الاوروبيين سيعانون بشكل فادحمن "انقطاع" الامدادات الروسية في هذا المجال، كونه ليس سراً انهم يعتمدون بشكل مباشر على هذا الامر، فهم غير معتادين على قوارير الغازوغيرها من الامور، لان الغاز يصل الى بيوتهم مباشرة لتسهيل حياتهم اليومية، وهو ما يرتد سلباً ايضاً على الولايات المتحدة التي دفعت الاوروبيين الى هذا الخيار وهم يتطلعون اليها بتأمين البديل. وبدا واضحاً ان الرهان على الحاق الوجع بروسيا من خلال فرض عقوبات عليها في هذا الشأن لم يكن مدروساً، بدليل استثناء واشنطن والاتحاد الاوروبي حقل الطاقة من العقوبات، وهو ما اراح الروس من جهة والاوروبيين من جهة ثانية، والا لكنا بالفعل امام كارثة قد تؤدي فيما لو تفاقمت الى حرب ساخنة بدل الحرب الباردة التي قرر الغرب خوضها. اضافة الى ذلك، عمدت روسيا الى تعزيز علاقتها بالصين في هذا الشق، وتم الاعلان عن اتفاق عقد جديد لتزويد بكين بـ10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي من أقصى الشرق الروسي، على أن تتم المدفوعات باليورو.

وفي ما خص العقوبات المالية، صحيح ان اقصاء عدد من المصارفالروسية من نظام "سويفت" العالمي المعتمد كصمدر للتحويلات، اضرّ بروسيا اضافة الى العقوبات التي فرضت على الرئيس الروسي وعدد كبير من مساعديه ورجال الاعمال، ولكن بوتين كان قد قام بواجباته واتجه مجدداً الى الصين لمساعدته خصوصاً وانها تملك اكبر احتياطات من العملات الأجنبية بالدولار واليورو في العالم. ولمزيد من محاولات الاستقلال عن الدولار الاميركي واليورو، اتجهت روسيا والصين منذ فترة الى توقيع اتفاقيات تبادل العمل مع كثير من الدول لتقليل التعامل بالدولار، بالإضافة إلى خفض البنك المركزي الروسي والصندوق السيادي الروسي التعامل بالدولار، وهو امر سيقرّب الكثير من الدول خصوصاً في آسيا وافريقيا اذ سيسمح لها بالتخلي عن العملة التي تقضي على اسعار عملاتها المحلية شيئاً فشيئاً.

انها حرب الخسائر، وكان من المفترض والانجع عدم الدخول فيها، ولكن بعد ان اختلفت الحسابات، يبقى معرفة حجم الخسائر التي سيتكبدها الجميع وانعكاسها على الصورة العامة للاوضاع في العالم اجمع.