يَطوفُ الأُرثُوذُكسيُّونَ في أحدِ الأُرثُوذُكسيَّة[1] حامِلينَ أيقُوناتِهِم، ويَسيرُونَ خَلفَ الكاهِنِ الّذي يَحمِلُ الإنجِيل، ويُرَتِّلُون: "لِصُورَتِكَ الطَّاهِرَةِ نَسجُدُ أَيُّها الصَّالِحُ، طَالِبينَ غُفرَانَ الخَطايا أَيُّها المَسيحُ إلهُنا. لأنّكَ قَبِلتَ أن تَرتَفِعَ بِالجَسدِ على الصَّليبِ طَوعًا، لِتُنَجّيَ الّذينَ خَلَقْتَ مِنْ عُبوديَّةِ العَدُوّ. فلذلك نهتِفُ إليكَ بشُكرٍ: لقد ملأتَ الكُلَّ فَرَحًا، يا مُخلِّصَنا إذ أتيتَ لِتُخَلِّصَ العالم".

هَذهِ الصُّورَةُ الطَّاهِرَةُ للمَسيحِ، خَلَقَنا اللهُ علَيها، وأتَى إلينا وأرَانا وَجهَهُ لِيُصبحَ وجهُنا كَوَجهِه، ونَكونَ أيقُوناتٍ مُستَنيرةً بِنُورِهِ الإلهيّ، لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنّا مَشروعُ أيقُونَة.

وهذا ما تُحاوِلُ الكَنيسةُ دائِمًا أن تُذَكِّرَنا بِهِ، مَثلًا في القُدّاسِ الإلَهيّ، حينَ يَطلب الكاهِنُ أن يَحُلَّ الرُّوح القُدُسِ عَلَينا وعلى القَرابِينِ المُقَدَّمَة. كَذَلِكَ يُبَخِّرُ الكَاهِنُ كُلَّ مُؤمِنٍ مَوجودٍ في الكَنِيسَةِ، فنَحنُ أبناءُ اللهِ بِالتَّبنّي.

بِالعَودَةِ إلى أَحَدِ الأُرثُوذُكسِيَّةِ، هُوَ تَذكارُ انتِصارِ الإيمَانِ القَويمِ، وتَكريمِ الأيقُوناتِ بعدَ حَوالى ١٢٠ عامًا مِن الاضطِهادَاتِ ضِدَّها دُعِيَت Iconoclasme، وهي كَلِمَةٌ يُونانِيَّةٌ تَعني "كَسرُ الأيقُونَة"، دُمِّرَت فيها أَيقُوناتٌ وجِدارِيَّاتٌ وفُسَيفَساءٌ عِدَّة، وسَقَطَ فيها شُهداءٌ.

وقد تَمَّت هذه الحربُ على مرحلتَين، الأُولى بَدأتْ عام ٧٢٦م وانتَهَتْ بِعَقدِ المَجمَعِ المَسكُونيّ السَّابِعِ في نيقية سنة ٧٨٧م، والثَّانيةِ بَدأت عام ٨١٣م وانتَهَت مَعَ انعِقادِ مَجمَعٍ في القِسطَنطينِيَّةِ سنةَ ٨٤٣م. وكانَتِ الثَّانِيةُ أصعَبَ مِنَ الأُولى. وفي كِلتَيهِما كان للإمبراطُوريَّتَين إيريني وثيوذورة، اللتَين تُوفِّي زوجاهُما، الدَّورُ الأساسيّ في وَقفِ الاضطِهادِ وعَقدِ المَجمَعَين.

لم يَعرِفِ الغَربُ حَربَ الأيقُوناتِ، وانحَصَرت بِالشَّرق، بِاستِثناءِ مِنطَقَةِ Turin في إيطاليا مَعَ أُسقُفِها Claude المُعادِي للأيقُونَات (٨١٦م)، والآتي مِن إسبَانِيا حَيثُ تَرَبَّى في جَوٍّ سَادَتْ فيهِ الأريوسِيَّةُ الّتي أنكَرَتْ أُلوهِيَّةَ المَسيح، والّذي كان أيضًا مُعارِضًا لأُمورٍ أُخرى كَشفَاعَةِ القِدِّيسِين.

كَذلِكَ نَذكُرُ أنَّ Charlemagne لَعِبَ دَورًا مُضادًا لِتَكرِيمِ الأيقُونَاتِ، فأمَرَ بِعَقدِ مَجمَعِ فرانكفورت سنة ٧٩٤م الذي صَدَرَ عنهُ ما عُرِفَ بـLibri Carolini[2]. وقد جَاءَ فيها أَنَّهُ يُمكِنُ للأيقُونَاتِ أن تُستَعمَلُ كَزَخرَفَةٍ كَنَسيَّةٍ بِهَدَفِ التَّعليمِ واستِذكارِ حَوادِثِ الإنجِيل، ولكن مِنَ الحَماقَةِ إحرَاقُ البَخُورِ أمامَها، وإضاءَةُ الشُّمُوع، وأيضًا مِنَ الخَطأ أن يَتِمَّ إخراجُها مِنَ الكنائِسِ وتَدمِيرُها.

وهناكَ مَن حَاوَلَ تَبريرَ ذَلِكَ بِسبَبِ سُوءِ تَرجَمَةِ كَلِمَةِ "تكريم" اليُونَانِيَّةِ بـ "عِبادَةٍ" في اللاتِينِيَّةِ، مَعَ أنَّ نُصوصَ المَجمَعِ السَّابِعِ واضِحَةٌ بأنَّ العِبَادَةَ للهِ حَصرًا، والأيقُونَةَ تُكرَّمُ لِمَا تُمثِّلُ، ولا تُعبَدُ على الإطلاق.

وقد نُشِرَت هَذِهِ الاعتِراضَاتُ سَنةَ ١٥٤٧م، وهِيَ مَحفُوظَةٌ في الفَاتيكان، واستَعانَ بِها Jean Calvin[3] البروتستانتيّ لدعمِ أفكارِه ضد الأيقونات.

كما يُوجَدُ اعتراضان[4] سابِقان أُرسِلا إلى البابا Hadrien I في العام ٧٩٢م الذي رَفضَهُما وشَدَّدَ على مُقرَّراتِ المَجمَعِ السَّابِع. وسَبَقَ كُلَّ ذَلِكَ مَجمعُ Hieria ضِدَّ الأيقُونَاتِ عام ٧٥٤م، في القِسمِ الشَّرقيّ للإمبرَاطُورِيَّة.

أمَّا مِن نَاحِيَةِ أَسبابِ الحَربِ ضِدَّ الأيقُونَاتِ فَتعدَّدَتِ الشُّروحَاتُ حَولَها، وسَنُحاوِلُ في ما يلي إيجازّها:

-كانَتِ القسطنطينيّةُ مُعرَّضَةً بشَكلٍ دَائمٍ لِخَطَرِ اجتِياحِها مِن البلغارِ المُتاخِمينَ لَها، وكَذَلِكَ مِن العَرب، وقَد أحَاطَ بِالأباطِرَةِ مُستَشارون أوعَزُوا إليهم أنَّ زِيّاحاتِ الأيقُونَاتِ التي تُقامُ لِحِمَايَةِ الإمبرَاطُورِيَّةِ، لا تُجدي نَفعًا، لا بَل تَجلِبُ غَضبَ اللهِ لأنَّها انحِرافٌ إيمانِي. وقد بَرَّرُوا ذَلِكَ بِأنَّ الإمبراطوريَّة خَسِرَتِ الكَثيرَ مِنَ المَعارِكِ نَتيجَةَ ذَلِك، وعِندَما مَنعُوا الأيقُوناتِ انقَلَبَتِ النَّتيجَةُ لِمَصلَحَةِ القِسطنطِينيَّةِ في الحُرُوب.

نَشَطَ هَذا التِيَّارُ بِتأثِيرٍ يَهُوديّ وعَرَبِي، وكان أصلًا موجودًا، ودَعَمُوا مَوقِفَهم بِنَصٍّ مِنَ العَهدِ القَدِيم "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ".

ولِحُسنِ فَهمِ هَذِهِ الآيةِ يَجِبُ قِراءَةُ الآيَةِ السّابقة لِهَذا المَقطَع: "لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي". فالمَقصُودُ إذًا ألّا نَجعلَ مِنَ التَّصاويرِ آلِهَة. وهذا طَبعًا ما لَم تَفعَلْهُ الكنيسَة. كما أنَّ الكَلِمَةَ الأصلِيَّةَ المُستَعمَلة الّتي تُشيرُ إلى التَّماثِيلِ تَعني تَحديدًا التَّماثيلَ للعِبادَةِ ولَيسَ أي تماثيل. وأتت هكذا في عدة أماكن أخرى في النصوص.

وهُنا نَذكُرُ أنَّ الرَّبَّ طَلَبَ أن يُصنَعَ "كَرُوبانِ مِنْ ذَهَب[5]" " فَوقَ تَابوتِ العَهدِ، وحَيَّةٌ نُحاسِيَّةٌ للشِّفاءِ مِنَ الأفاعي[6].

​​​​​​​كَذلِكَ يَشرَحُ القِدّيسُ أثناسيوس الكبير[7] أنَّ اللهَ أَعطانا هَذِهِ الوَصِيَّة لتَجَنُّبِ الوُقوعِ في التَّخيُّلاتِ الخَاصَّةِ بِعِبادَةِ الأوثَان. فقَبلَ صَيرُورَةِ اللهِ إنسَانًا لا يُمكِنُ تَصويرُه.

-وَهُناكَ نُقطَةٌ مُهِمَّةٌ جِدًّا وهي أنَّ الأبَاطِرَةَ كانوا يُعِدُّونَ أنفُسَهم الحُكَّامَ المَدَنِيّينَ وفي الوقتِ نفسِه القادةَ الكنَسِيّينَ، فتجتَمِعُ في شَخصِ الإمبراطورِ صِفَتا الحَاكِمِ المَدَنيّ وَالقائدِ الدّينيّ لحدِّ العبادة، فشدّدوا على استِعمالِ الرَّمزِ المَسيحيّ المَعروفِ ب Le Chrisme، أي تَصويرِ الحَرفَين اليونَانيَّين الأوَّلَين لاسم المَسيح (P و (Xبِطَريقَةٍ مُتشابِكَة، كأن هذا الرَّمزُ مرتبطٌ بالإمبراطورِ ويُشيرُ إلى الولاءِ له والاصطفافِ خلفه، وكان قَدِ اعتمَدَهُ سابقًا الإمبرَاطُور قِسطنطينُ الكَبير.

هنا لا بُدَّ مِنَ التَّنويِهِ بأنَّ الرُّهبَانَ في تِلكَ الفَترَةِ، كانوا يَسعَونَ جاهِدِينَ ألّا يَكُونُوا خاضِعينَ للإمبراطور، بل أن يُحافِظُوا على أُرثُوذُكسيَّتِهم. والأيقُوناتُ، بِمَفهُومِها وأهميَّتِها، تُقَوّي رُوحَ التَّقوى والإيمانِ في نُفُوسِ المؤمنِين، ما يَعتَبِرُهُ الإمبرَاطورُ خُروجًا عن طاعَتِهِ (عِبادَتِه). كما كان كتابةَ الأيقوناتِ تُؤمِّنُ للأديارِ مَردُودًا ليسَ بالقَليل، ويَسمَحُ لهم بِتَوسيعِ ممتلكاتِهم، (وهُم مُعفَونَ مِن الضَّرائب)، الأمرُ الذي اعتَبَرَهُ الإمبراطور لا يَصبُّ في مصلحته، فأصبَحَ الرُّهبانُ جِسمًا قويًّا داخِلَ الإمبراطوريّة، وزادَ عددُ الأديارِ، والتَحَقَ الشَّبابُ بِها عِوَضَ انخِراطِهم في جيشِ الإمبراطور.

وهذا ما يُلِفتُ الانتباهَ إلى أن الحربَ ضِد الأيقونات كانت في الشرق حيثُ كان الإمبراطورُ موجودًا ومُعتبِرًا بأنَّ المعركةَ معركتَه الشخصيّة، عِلمًا أنّه كان يوجدُ أيقوناتٍ وجدارياتٍ وفسيفساءَ مسيحيّةً في روما ورافينا وغيرِها.

خُلاصَةُ القَولِ، الأيقُونَةُ مِن صُلبِ الإيمانِ المَسيحيّ، ولاهُوتها وُجِدَ في الشَّرقِ بِقُوَّةٍ، بِخاصَّةٍ علاقةُ المُؤمِنِ بها كَونَها نافِذَةً إلى المَلَكُوت، وهذا ما يُشكِّلُ البُعدَ الثَّالِثَ في الأيقونةِ غَيرَ المَنظور. كما هي مُرتَبِطَةٌ بِالتَّجسُّدِ الإلَهِيّ الذي هو جوهرُ الإيمانِ المسيحيّ، ولها حُضُورُها مِن بِداياتِ القُرونِ الأُولى للمسيحيّة.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] - الأَحَدِ الأَوَّلِ مِنَ الصَّومِ.

[2] Les Libri Carolini ("Livres de Charles"), plus correctement Opus Caroli regis contra synodum ("L'œuvre du roi Charles contre le Synode").

[3] 1509-1564

[4] Capitulare adversus

[5] - خروج ١٨:٢٥

[6] - فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: "اصْنَعْ لَكَ حَيَّةً مُحْرِقَةً وَضَعْهَا عَلَى رَايَةٍ، فَكُلُّ مَنْ لُدِغَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا يَحْيَا" (عدد ٨:٢١).

[7] (+373)