مَنْ يُراجع تاريخ العلويين يُدرك جيّداً أنّ الزمان كان يجود عليهم بين الفينة والأخرى، وعلى حين غفلةٍ من أمرهم، بمُنقذٍ لا يتوقّعونه؛ إذْ كان ينشأ بين ظهرانيهم مخلصٌ ما فينقلهم من حالٍ سيئة إلى أفضل منها بكثيرٍ.

والتوصيف هذا ينطبق على تاريخهم الوسيط والحديث والمعاصر، والأمثلة شاهدة، فقد ظهر السّيّد الخصيبي (260-346ه) بعد غيبة أئمتهم (ع) وبثّ فيهم روحاً متجدّدة ميّزتهم بأمور كثيرة عن سائر الفرق الشيعية.

وسار الأمر حتى ظهر المكزون السنجاري في القرن السابع الهجري بعرفانه وإمارته.

ثم جرى القلم في مطلع القرن العشرين بنبوغ علامة العلويين الشيخ سُليمان الأحمد (1869-1942م) بمدرسة أدبية أنجبت بدوي الجبل (1903- 1981م)، وترافق ذلك بقيادة ثوريّة فذّة للشيخ الشهير صالح العلي (1885- 1950م).

وانطلق معهم قطار الوعي السياسي الذي صرنا نرى تجليات نضجه تتبلور تباعاً اعتبارا من الخمسينيات؛ حيث برزت القيادات السياسية والحزبية، والتي نقلت المجتمع العلوي بكل تطلعاته من صورة نمطية متراجعة أو مُختفيةٍ، إلى تصدّر المشهد العام.

هذا باختصار سريع لو سُمحَ به.

أمّا في ​لبنان​، فالعلويون كانوا وما زالوا حالة استثنائية، فلم ينعم الزمان عليهم بَعْدُ بفارس نبيل، يكن همّه إيجاد صيغة وجودية ترسخ انتماءهم في هذا الوطن العزيز، رغم ظهور بعض الشخصيات القيادية التي لم تكن مخلصة بالقدر الكافي، فذهب نتاجُها: أدراجَ النسيان... مع هبوب أول نسمة عبرتْ بَعْدَهُمْ...

فمنْ منهم يُذكرُ حالياً؟ سياسياً كان أو فاعلاً، أو مثقفاً أو رَجُلَ دينٍ؟.

سواء رَحَل إلى بيته، أو إلى آخرته.

الكلّ بعد أن يَترك منصبه يختفي أثرُه مباشرةً، فلا شيء خلّفه وراءه يُخَلِّد ذكرَهُ، وتزول كلُّ تلك البهرجة الفاقعة التي ظنّت أنّها طاولت السماء شموخاً، وإذ بها تسقط في غبار جنازتها فوراً.

لن أستفيض هنا في الحديث عن النواب السابقين والحاليين: الأموات منهم والأحياء، فهم وتجاربهم إنْ وُضعوا على مشرحة النقد، لا يسلم من التوبيخ عندها سوى بضعة مراحل، وعدة مواقف، لقليلهم دون كثيرهِمُ الجديرِ بكلّ تقريع.

وهذا درسٌ أخلاقيٌّ وتوجيهي يجب أن يتّعظ بهِ الكلُّ، خصوصا أولئك الطارئون على ​الفراغ السياسي​، الذين لعبت بهم مزاجياتهم الهوجاء، فطرحوا أنفسهم على مسرح التمثيل النيابي المرتقب...

هم أشبه بطبول فارغة لا تسمع إلاّ قرع أفكارها وضجيج صراخها، خالية من كلّ حسّ بالمسؤولية، معدومة من كل وطنية.

ازدواجية مخيفة يعيشها هؤلاء المتسللون، كي لا نقل ثلاثية ورباعية...

هم بالخفاء يستجدون القرار السوري بأيّ ثمن، وفي العلن فهم منسجمون مع كل التناقضات اللبنانية، يلهثون وراء أصحاب اللوائح والزعامات الطائفيّة حتى يضمنون اسما لهم على لائحتهم، هادرين كل مبادئهم المزيفة، وكرامتهم المصطنعة.

حتى هذه اللحظة لا يوجد مرشح علوي واحد تجرّأ وطرح نفسه ببرنامج محدّد وخطة واضحة، هو فقط وهمي على وسائل التواصل، يقدّس كل من هبّ ودبّ، ويتبنّى أيّ طرح، ويجاري كلّ سائر، ويؤيّد كلّ ثائر.

كان يلهث وراء "المستقبل" فاستقال الأخير، فضاع، وفي الوقت عينه كان يستجدي "التيار الحر" فوصلت رسالة منه (لعله لم يسمعها بعد): لن نتبنّى مرشحا علوياً، ثم تسلل بكل عزيمة إلى أبواب "العزم"، فكانت الأخبار محبطة أنّ رئيس "العزم" لن يترشح.

صار فجأة من مناضلي ​المجتمع المدني​، وهو أجبن من يحتج على فشل ناظر أو ناطور؟.

وهنا يقع في ورطة مربكة: على أيّة لائحة مجتمع مدني يجب أن يترشح؟.

لا يهمُّ، المهم ضمان الترشّح، وليكن بعده طوفان السخرية والاستهزاء.

واليوم يرزح العلويون في لبنان تحت نير العجز وسطوة الجمود وترهيب المعترضين، وفوق كل ذلك كله التذاكي القبيح الذي هو أشدّ وطأة من التغابي الفاضح.

فهل يستمر الوضع على ما هو عليه؟.

أم قد خبّأت الفرص لنا مفاجأة سارة في القريب المنتظر؟.

لا شيء يوحي بالتفاؤل في المدى المنظور، حالنا مثل حال باقي النسيج اللبناني.

على أنّ دعوتنا إلى مقاطعة ​الانتخابات النيابية​ المرتقبة ليست بعيدة، نعلنها في حينها، فلن تُورثنا إلاّ شقاقا وخلافا، ولن تعود علينا إلاّ بسخيف برتبة نائب تافه.

على أنني ما زلت مؤمنا أنَّ صوتا علويا دفينا سيخرج يوما ما ليصرع كل صنمٍ، ويهز عرش كل جمود.

فهذا المكوّن اللبناني الضعيف، سينهض يوما، لكنه بحاجة إلى أيادٍ صادقة من شركائه بالوطن، تمتد إليه بكل حُنُوٍّ لتقيمه من عثرته، لا أن تزدريه بالتبعية، في زمن صار الكل في هذا الوطن تابع ومتبوع، ولا أن تستقوي عليه بعد أن تُرك وحيدا.

ونسأل أخيرا نائب الغفلة: منْ أنت بعد 15 أيار؟ إذا صحّ الصحيح؟.

أنت "زبدٌ يذهب جُفاء".