مع إقفال باب الترشيحات إلى الانتخابات النيابية، يمكن القول إنّ البلاد دخلت فعليًا، أخيرًا، في أجواء الانتخابات النيابية المقرّرة في غضون أقلّ من شهرين، وتحديدًا في الخامس عشر من أيار المقبل، حيث لوحِظ في الأيام الأخيرة أنّ الاستحقاق الموعود بات فعلاً "الشغل الشاغل" للجميع، وما عاد هناك "صوت يعلو" على صوت المعركة المرتقَبة.

وقد تُرجِم ذلك بوضوح من خلال الكمّ العالي من المؤتمرات والكلمات والمهرجانات التي شهد عليها اللبنانيون في الأيام الأخيرة، التي تناوب فيها من يوصَفون بـ"الزعماء" على الإطلالات الإعلامية لكشف "هويات" المرشحين الذين سيخوضون من خلالهم الانتخابات، وإن "تقاطعت" بشكل واسع على إبقاء "القديم على قدمه"، كما لو أنّ شيئًا لم يكُن.

ولتكتمل "الحماوة الانتخابية"، كان لا بدّ من إضافة بعض عوامل "التشويق" التي يتقنها قادة الأحزاب في لبنان، ولا سيما لجهة تبادل الاتهامات، ورفع السقف إلى الحدّ الأعلى، بما يسهم في "تعبئة" الجماهير، وهو ما تمثّل في بعض المصطلحات التي أضيفت على ما يبدو إلى الحقل المعجمي الانتخابي، وعلى رأسها "الحربايات" التي أطلقها الوزير السابق جبران باسيل.

وإذا كان الرقم النهائي للمرشحين، والذي تخطّى الألف، ووصل إلى 1043 بحسب ما أعلن وزير الداخلية والبلديات بسام مولوي، مع انتهاء المهلة الرسمية، أسهم في رفع مستويات "الحماوة" بشكل أو بآخر، فإنّه أطلق العنان للمزيد من علامات الاستفهام، فهل أصبحت الانتخابات فعلاً في دائرة "اليقين"؟ وأيّ "معارك" مُنتَظَرة على خطّها؟.

في المبدأ، لا شكّ أنّ عدد المرشحين، الذي سجّل رقمًا "قياسيًا" وفق متابعين، انطوى على العديد من الدلالات، ولا سيما أنّه تخطّى "حاجز" انتخابات 2018، التي كانت "واعدة" يومها مع قانون انتخابي جديد اعتقد كثيرون أنّه سيحمل "التغيير"، قبل أن يكتشفوا أنّ "مفصَّل على قياس" الطبقة السياسية، من دون أن ننسى عامل "الشكّ" الذي لا يزال يحيط بالعملية الانتخابية، في ضوء إصرار العديد من الجهات على أنّ "شيئًا ما" سيؤدي إلى "تطييرها" في اللحظة الأخيرة.

يرى البعض أنّ هذا العدد من المرشحين، ومعظمهم من الوجوه الجديدة والشابة، بعدما ارتأى العديد من الأطراف "العزوف" بكلّ بساطة عن خوض الاستحقاق، مرتبط بالطابع "المفصليّ" لهذه الانتخابات، بوصفها الأولى منذ ما عُرِفت بـ"انتفاضة 17 تشرين"، وبالتالي منذ أن وجد اللبنانيون أنفسهم في قلب "جهنّم"، على وقع أزمات غير مسبوقة جعلت الطبقة السياسية تقف "متفرّجة"، بل "عاجزة" عن فعل أيّ شيء يساعد الناس على "الصمود".

ومع أنّ القوى السياسية التقليدية تبدو "مطمئنّة" لواقعها الشعبي، ولا تخشى سوى على خسارة مقاعد "محدودة"، لن تقدّم أو تؤخّر شيئًا في المعادلة، استنادًا إلى "تعقيدات" القانون الانتخابي التي تلعب لصالحها، فإنّ "الاندفاع" نحو الترشّح في وجهها بهذا الشكل من شأنه أن يلفت الانتباه، ولو أنّ البعض يعتقد أنّ القوى "التغييرية" تكرّر بهذا التصرّف "خطيئة" 2018، يوم خاضت الانتخابات "جماعات"، ومن خلال لوائح متباينة، ما شتّت الأصوات إلى حدّ بعيد.

من هنا، فإنّ الأنظار ستتّجه خلال الأسابيع الثلاثة المقبلة نحو "تركيب اللوائح"، باعتبار أنّ قانون الانتخابات يفرض على جميع المرشحين الانضواء في لوائح، وإلا يتمّ استبعادهم تلقائيًا من السباق، وبالتالي فإنّ هذه الفترة ستكون "كفيلة" بفرز عدد المرشحين، وخفضه ربما بشكل كبير، كما أنّها سترسم بوضوح خريطة التحالفات، التي سيُبنى عليها الكثير في "قيادة" المعارك الانتخابية في الشهرين المقبلين.

وبانتظار "نضوج" هذه المعطيات، واتضاح معالمها بالكامل، يبدو واضحًا أنّ "المعركة" انطلقت رسميًا وجديًا في اليومين الماضيين بين القوى السياسية المعنيّة، وإن اعتبر كثيرون أنّ "المعركة الجدية" ستكون محصورة في الساحة المسيحية، مع خوض الساحة السنية "معركة" من نوع آخر، تتمحور حول ملء "الفراغ" الذي تركه قرار رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري بالانسحاب، مع "الضغط" على كلّ الدائرين في فلكه ليحذوا حذوه.

وبدت "ترجمة" هذا الأمر واضحة في اليومين الماضيين، فعلى الساحة المسيحية، بدأ "التراشق الكلامي" بين مختلف القوى يقترب من "الذروة"، وتحديدًا بين "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​"، وهو ما تجلّى في كلمتي رئيسيهما جبران باسيل وسمير جعجع، في ظلّ انتقادات للأولباعتماد خطاب "تحريضي"، ارتقى لمستوى "القدح والذم"، واتهام للثاني بمحاولة "تسلّق الثورة" مرّة أخرى، مع تسجيل "سقطات" وقع بها في مؤتمره الصحافي.

أما على الساحة السنية، فلا تزال الأمور غامضة، مع توالي إعلانات "العزوف"، التي وصلت إلى رئيس الحكومة ​نجيب ميقاتي​، وكذلك رئيس الحكومة الأسبق ​فؤاد السنيورة​، الذي بدا أنّ "الحملة" التي قادها "الحريريون" عليه نجحت في تحقيق هدفها، ولو أنّ الرجل بدا ماضيًا في المعركة، من دون ترشيح شخصي، وهو قال بوضوح إنّ عزوفه لا يعني المقاطعة، وإنّه سيكون معنيًا، بل منخرطًا بالعملية الانتخابية، بكلّ أبعادها.

باختصار، يمكن القول إنّ الانتخابات المنتظرة خلال شهرين، باتت أخيرًا في صدارة "الأولويات"، بعدما وُضِعت "على الهامش" لفترة طويلة. لعلّ "الحماوة" الانتخابية المرصودة، والتي سيرتفع صداها في الأيام المقبلة، خير دليل. لكنّ الأكيد أنّ كلّ ذلك لا يكفي، ليس لأنّ الظروف استثنائية، ولا لأنّ "رهانات" الكثيرين لم تنتهِ بعد، ولكن لأنّ المواطن، الذي لا يجد نفسه معنيًا أساسًا بانتخابات من شأنها "التجديد" للقوى نفسها التي حوّلت البلد إلى "جهنّم"، ما عاد يجرؤ حتّى على التفكير بغدٍ أفضل!.