لطالما إحتَقَرتُ، مِن دون أيِّ عُذرٍ تَخفيفيّ، اولئِكَ الذين يَعتِبِرونَ ​لبنان​َ "غلطةً تاريخيَّةً"، ما يعني تَسهيل صَرفِها في أسواقِ النِخاسِةِ والتَصرُّفِ بِها في أسواقِ الرِجاسَةِ. فأنتَقد تَعذُرُ مَن يَدري، ولكن لا يُمكِنُكَأن تَعذُرَ مَن لا يَبغي قَصداً أن يَدري، لأنَّهُ يُريد أن يُلغي. وهنا بيتُ القَصيد. ذلك أنَّ الدِرايَةَ أو عُمقَ المَعرِفَةِ تتقصَّدُ عَقلاً واعياً يُوضِحُ المَدى القائِمَ بَينَ المَعروفِ (وهو وَطَن)، والوِجدانِ العارِفِ. فَكيفَ إذا كانَ هذا الوِجدانُ ضارِباً في الحَضارَةِ، بِقَدرِ ما هو فاعِلٌ ومُتفاعِلٌ مَع الإيمانِ والفِكرِ؟.

جُرمُ مَن يَبغيإلغاءَ كلّ ذَلِك بِكَلِمَة: "هو غَلطة"، قائِمٌ على إبتِغاءِ إنعِدامِ وجودِ لبنانَ، على الرُغمِ مِن كلِّ البَراهين على أنَّه أبعَد ُمن حالَةٍ، إنَّه فِعلٌ. والفِعلُ إندِفاعٌ أثبَتَ وجودَهُ فما عادَ بِحاجَةٍ بَعدُ الى دَليلٍ، إذ هو الدَليلُ بِحدِّ ذاتِهِ.

والأقوى أنَّ لبنانَ، بِذاتِهِ، ما إرتابَ مَرَّةً بوجودِهِ ولا بِفِعلِهِ. على العَكسِ، مُنذُ فَجرِ التاريخِ، كانَ فِعلَ مَعرِفَةٍ وإيمانٍ مُتشابِكٍ: مَعرِفَةً تُفكَّرُ وإيماناً يؤمِنُ. وأقولُ وأكرٍّرُ: مُتَمَرِّدٌ بِذاتِهِ المَرئيَّةِ وبأحداثِهِ الزَمَنيَّةِ والمَكانيَّةِ. وهو بَقيَ حينَ فَرَّ وتَهَرَّبَ وإندَثَرَ آخرون، بين اللازَمانِ واللامَكانِ. وما كانَ مَرَّةً الَّا حُريَّةَ إختيارٍ وَليسَ تِلقائيَّةَ إنفِعالٍكَما لَو كانَ مُسيَّراً... جَبراً.

مُنذُ تَطَوّرِ تَكوينِهِ هذا، وكُثُرٌ لا يُريدونَهُ كَذَلِكَ. وما غايَتُهُم سِوى أن يُجرِّدوهُ مِن قوَّةِ التَعَقلُنِ التي فيهِ، كَي يُدَجِّنوهُ فَيَسهُلُ عَليهِم شَطبَهُ مِن مُعادَلَةِ الحَياةِ، إذ وَحده الذي لا قُدرَةَ فيه تُعَقلِنُيَكون في رُقادِ المَوتِ، والمَوتُ للأوطانِ فَناءٌ.

يَبقى الأنكى، اليوم، أمامَ الذين ما تَعِبوا بَعد مِن مُحاولاتِهِم، وقد أفشَلَها لبنانُ بِما هو، إستماتَتَهُم في تَفريغِهِ مِنَ الداخل، بِحيثُ يَبقى شِبه بَرّانيَّاً الَّا أنَّ باطِنَهُ باتَ عَراءً يَملأونَهُ بِما هُم، أيّ بِخِلافِ طَبيعَتِهِ. قَد تَكونُ تِلكَ مُحاولةٌ مُتذاكيَةٌ، لَكنَّها، وِفقَ مَنطِقِ لبنان، مَهزومَةٌ سَلَفاً.

لِماذا؟ لا بَل: كَيفَ؟.

هَل لبنانُ بوقٌ صَوتِّيٌ لِيِتِّمَإنهاؤهُ بِتَفرِيغِ طاقَةِ الريحِ التي فيهِ؟ بالطَبعِ هو لا يَستَسلِمُ طالَما هو مُجالِدٌ كَصَخرِهِ، مُتَرَّبِصٌ كَقِمَمِهِ، وَمُتَحَفِّزٌ كَمُنبَسَطاتِهِ، فَمَن قادرٌ عَلى إلغاءِ استِثنائيَّةِ طِبيعَتِهِ؟ مَن قادِرٌ عَلى وَقفِإستِشراسِ رِيحٍ، أو سُطوعِ شَمسٍأو تَعاقُبِ فُصولٍ بِما فيها مِن ثَوابِتَ وَمُتَبَدِّلات؟.

هيَ الطَبيعَةُ أقوى مِن أيِّ قُدرَةِ تَحطيمِها. كَيفَ لو زُدتَ إليها سَطوةَ تِلكَ الشَرارَةِ المُتوالِدَةِ مِن تَشابُكِ الفِكرِ والإيمانِ وإستيلاداتِهِما؟ قَد يَنجَحُ بَعضٌ، وَهُم ضِدَّ لبنان كُثُرٌ، في تَسطيحِ الفِكرِ. وَقَد يَتَهالَكُ آخرونَ على تَسخيفِ الإيماِن، وَهُم ضِدَّ لبنان أكثريَّةٌ. لَكِن مَهما كَثُرَت أكثريَّةٌ، فَلَن يَكونَ في مَقدورِها حَذفَ ما فيهِ مِن فِكرٍ يُسايفُ وإيمانٍ يُكافِحُ، ذِلِكَ أنَّ الإثنانِ معاً... مِن طَبيعَتِهِ أيضاً.

رُبّانُ الأجزاءِ

حاوِلوا قَدرَإستِطاعَتِكُم، فَما نَجَحتُم وَلَن تَفلَحوا. وَبقاؤكُم في الحَقارَةِ التي تَستَحِقُّونَ. لِماذا؟ لأنَّكُم تَدرونَ وتَرفُضونَالتَصديقَ أنَّ لبنانَ لَيس أقوى مِنكُم فَحَسب، بَل سَيَبقى طَبيعَةً وَروحاً في آنٍ، مَمنوعاً مِن الصَرفِ، رُبّاناً يُديرُ كافَةَ الأجزاءِ، وَلَن يَصطَدِمَ بِذاتِهِ كرمى لِرَغبَتِكُم في مَحوِهِ.

هو المُجاهِدُ في ذُروَةِ الوِجدانِ يَعي غِبطَتَهُ مِن رُسوخِ قَناعَتِهِ بِحَقيقَتِهِ. أنتُم عَقَبَةُ ذاتِكُم... والعَقَبَةُ طَفاوَةٌ، مَصيرُها دَوسُ الوجودِ.