كَتَبَ الشَّاعِرُ الفَرنسيّ [1]Marie-Joseph Chénier، المَولودُ في القِسطنطِينيّةِ نَشيدًا ثَورِيًّا شَهِيرًا، عُرِفَ باسمِ "نَشيدِ الانطلاقِ Le Chant du Départ "، وذَلِكَ عَقِبَ انتِصارِ الجَيشِ الثَّوريّ الفَرَنسيّ على قُوّاتِ التَّحالُفِ الإنكلِيزيّة-الجِرمَانِيَّةِ في مَعرَكَةٍ حاسِمَةٍ[2] في بلجيكا. عُنوانُ النَّشيدِ في أصلِهِ: "نشيدُ الحُريَّة"، ولِأهمِيَّتِهِ دُعِيَ: "شَقيقَ النَّشيدِ الوَطنيّ الفَرنسيّ"، وكانَ المُفضَّلَ عِندَ "نابوليون".

النَّشيدُ هذا كِنايَةٌ عن لَوحَةٍ مُوسِيقِيَّةٍ تَتضمَّنُ سَبعةَ مَقاطِعَ على شَكلِ مُناشَدَة. في مَقطَعِهِ الأوَّلِ يُشَجِّعُ القائدُ الجُنودَ للدِّفاعِ عنِ الجُمهُورِيَّة. وفي الثَّاني تَقومُ أُمٌّ بِتَقدِمَةِ ابنِها للوَطَن. وفي الرَّابِعِ شابٌ يَصرُخُ: أَمُوتُ، ولكن مِن أَجلِ الحُريَّة.

بَدايتُهُ رائِعَةٌ[3]: "نُنشِدُ النَّصرَ فيَزولُ كُلُّ حاجِز. الحُريَّةُ تُرشِدُ خَطواتِنا. مِنَ الشَّمالِ إلى الجَنوبِ يُعلِنُ بُوقُ الحَربِ ساعَةَ المَعارِك. يا أَعداءَ فَرنسا اهتَزّوا. يا أيُّها المُلوكُ السَّكارَى بِالدِّماءِ والكِبريَاءِ، الشَّعبُ السّياديّ يَتقدَّم. يا أيُّها الطُّغاةُ انحدِرُوا إلى النَّعش"!.

لا يَتعجبَّنَ أَحَدٌ إن طَبَّقنا كَلِماتِ هذا النَّشيدِ على الصَّليب، مُعلِنينَ انتِصارَ المَصلوبِ والشَّعبِ المُؤمِنِ بِه. فنَكتُبُ "نُنشِدُ النَّصرَ بِالصَّليبِ فَيزولُ كُلُّ حاجِز. الصَّليبُ يُرشِدُ خَطواتنا. مِن لَحظَةِ عِمادِنا، يُعلِنُ بُوقُ الحَربِ الرُّوحِيَّةِ ساعَةَ المَعارِك. يا أَعداءَ المَسيحِ اهتَزُّوا. يا أيُّها الشَّياطِينُ وأتباعَهُمُ السَّكارَى بِالدِّماءِ والكِبرياءِ، الشَّعبُ المُؤمِنُ يَتقدَّم. يا فاعِلي الشَّرِّ انحَدِرُوا إلى الجَحيمِ الأبَدِيّ"!.

هَذا الأمرُ يَطرَحُ أمامَنا ثَلاثَةَ مَفاهِيمَ أساسيَّة، أَخذَت أَبعَادًا جَدِيدَةً بِالصَّليب، وهِيَ الانتِصارُ والجَمالُ والحُريَّة.

المَفهوم الأوَّل: الانتصار. نَقرأُ في نَشيدٍ لاتينيّ للصَّليب، مِنَ القَرنِ السَّادِسِ الميلاديّ، بِعُنوانِ "[4]Vexilla Regis رايَةُ الملك"، يُعلِنُ في بِدايتِه[5]: "اليومَ رَايَةُ المَلِكِ الكَبيرِ (العَظيم) تَتقَدَّمُ، حَيثُ خَالِقُ الجَسَدِ يَأتِي، وجَسَدُهُ مُعَلَّقٌ".

ويُكمِلُ "الآنَ يِتِمُّ أمامَ أَعيُنِ العالَمِ مَا تَنبَّأ بِهِ دَاودُ في أبياتِهِ، مُرَنِّمًا كَلِماتِهِ المُقدَّسَةَ، على أنغَامِ قِيثارَتِهِ، الأَبَدِيُّ (يسوعُ) نَصَبَ بِالخَشَبَةِ (الصَّليبِ) امبرَاطُوريَّتَه". ويُنهي مُوَجِّهًا كلامَهُ للرَّب، "لإسمِكَ المَجدُ إلى ما لا نِهايَة، أيُّها الثَّالُوثُ المُتسامِي، مُبارَكٌ على الدَّوام. والّذينَ بِالصَّليبِ تُنقِذُهُم مِنَ الخَوفِ، يَنتَصِرونَ إلى الأبَدِ تَحتَ رايَتِكَ المُقَدَّسَة. آمين".

هذا النَّشيدُ يُجَسِّدُ مَعركةً كبيرةً. الرَّايَةُ الإمبَراطُورِيَّةُ الرُّومَانِيّةُ ولَونُها القِرمِزيّ، والتي كان يَعلُوها نَسرٌ، تَسِيرُ في الطّليعَةِ إبّانَ الحُروب، وأَصواتُ الأبواقِ تَعلُو، والآلاتُ المُوسِيقِيَّةُ تَعزِفُ. ويَظهَرُ التَّشبيهُ واضِحًا، فمَعَ يَسوعَ الدَّمُ القِرمِزيّ الإلهيّ يَغسِلُ الخَطايا، وكما يَصِفُهُ بيتٌ شِعريّ في هَذا النَّشيدِ: "مِن خاصِرَةِ يَسوعَ يَخرُجُ النَّهرُ القِرمِزيّ الّذي يُطفِئُ الجَرائِم. هو غَسيلٌ سَماويّ للنُّفوسِ التَّائِبَة".

كَذَلكَ يَذكُرُ الأبُ الأَميركيّ المُعاصِر، والأُستاذُ الجامِعيّ Richard Viladesau، وصاحِبُ مُؤَلَّفاتٍ عِدَّةٍ في اللاهُوت، في تَعلِيقِهِ على هَذا النَّشيدِ في مُؤلَّفِهِ "جمالُ الصَّليب[6]"، أنَّ الصَّليبَ شكّلَ مُنذُ البِدايَةِ انتِصَارًا وغَلَبة، بِحَيثُ أنَّ الغربَ رَكَّزَ على الفِداءِ الّذي حقَّقَهُ المَصلوبِ لِيَفدِيَ الإنسانَ بَعدَ سُقُوطِه. وطافَ الشَّرقُ يُبدِعُ بِشَرحِ لاهُوتِ الصَّليبِ وارتِباطِهِ الوَثيقِ بِالتَّدبيرِ الإلَهيّ مُنذُ الأزَل، مُرُورًا بِالتَّجَسُّدِ الإلَهِيّ لِيَتألَّهَ الإنسان.

ومَن يُتابِعُ الليتُورجِيةَ الأُرثُوذُكسِيَّةَ في هَذا السّياق، يُلاحِظُ فَرادَتَين: الأُولى، قِطعَةُ الصَّلاةِ "اليَومَ يُولَدُ مِنَ البَتول" الّتي تُرَتَّلُ في عِيدِ المِيلادِ المَجيد، هي على اللَّحنِ نفسِهِ لقِطعَةِ "اليومَ عُلِّق على خشبة"، وذلك للتَّأكيدِ على أنَّ الإلَهَ الّذي ظَهَرَ لنا بِالجَسَد، هُوَ ذاتُه الّذي سيُصلَبُ مِن أجلِنا. فالمِيلادُ غَيرُ مُنفَصِلٍ عَنِ الصَّلب. والفَرادَةُ الثَّانيةُ هي، تَسميةُ الأُسبوعِ العَظيمِ ويَومِ الجُمعَةِ العَظِيمَة. فَكَلِمَةُ "عَظيم" تُشيرُ إلى التَّدبيرِ الخَلاصيّ الّذي أَتَمَّهُ الرَّبُّ، وأيضًا لأنَّ الآلامَ والفَرحَ والمَجدَ مُتلاحِمَة، ولا تَركِيزَ على واحِدَةٍ دُونَ الأُخرى، مِنَ اللَّحظَةِ الأُولى للبِشارَة.

وقبلَ أن نَختِمَ فقرَةَ الانتِصار، نُشيرُ إلى أنَّ انتِصارَ المَصلُوب، مُنذُ البِدايَةِ، ظَهَرَ في الفُسَيفَساءِ والأيقُونات، وذلك في تَقاسِيمِ جِسمِ المَصلُوبِ الّتي تُشيرُ إلى قُوَّتِهِ، وفي أيقُونَاتٍ تُظهِرُ خُروجِهِ مِنَ الجَحيمِ مُنتَصِرًا حامِلًا صَليبَهُ، وأخرى تُظهِرُ عينَي الرَّبِّ على الصَّليبِ مفتُوحَتَين. وسَيكُونُ لنا شَرحٌ وَافٍ لِهذا الأمرِ في مَقالاتٍ لاحِقَة.

المَفهومُ الثَّاني: الجَمال. كَثيرُونُ يَقُولون: غَريبٌ أمرُ المسيحيّين، أينَ الجَمالُ في مَصلوبٍ يَنزِفُ دَمًا مِن رَأسِهِ إلى أخمَصِ قَدمَيه!؟ نُجيب: الجَمالُ الحَقيقيّ ليسَ الظَاهِرَ بَلِ الجَوهَر، والفَرقُ كَبيرٌ وكَبيرٌ جِدًّا. فإنَّ يَسوعُ المَصلوبَ أَطهَرُ وأقدَسُ إنسان. هُوَ الإلهُ القُدُّوسُ الّذي أَصبَحَ إنسانًا، وبَقِيَ في الوَقتِ ذَاتِهِ إلهًا.

نشيرُ هنا بأنًّ الطَّهارَة، في اللّاهُوتِ المَسيحيِّ، تَجعَلُ الإنسَانَ جَمِيلًا مَهما كانَ عُمرُهُ، وفي أيِّ وَضعٍ كان، بَينَما القَباحَةُ هِيَ الرَّذيلَة، إذ إنَّ الخَطيئةَ تَجعَلُ الإنسانَ قبيحًا حتى لو ارتَدى أَجوَدَ الحَريرِ بِأزهى الألوان، وحتّى لو تَبرَّجَ بأَجمَلِ المساحيق، وبِلُغَةِ اليَوم، حتّى ولو خَضَعَ لأنجَحِ عَمليَّاتِ التَّجمِيل.

المفهُومُ الثَّالِثُ: الحُريَّة. يُخبِرُنا إنجِيلُ مَتّى، أنَّ يسوعَ عِندما أَسلَمَ الرُّوح، إنْشَقَّ حِجَابُ الْهَيْكَلِ إِلَى اثْنَيْن[7]. هذا مَعناهُ أنَّ الحاجِزَ بَينَ السَّماءِ والأرضِ قد أُزيل. فنَحنُ أبنَاءُ اللهِ بِالتَّبنّي، ويسوعُ حَرَّرَنا مِن خَطايَانا، وأَدخَلَنا مَعَهُ المَلكُوت.

خِتامًا، يَبقَى الصَّليبُ سِرًّا يُكتَشَفُ بِالمَحَبَّةِ البَاذِلَةِ اللّامُتناهِية. فمَن يَعيشُهُ يَكتَشِفُ جَمالَه، ليسَ بِتَقديسِ الألَمِ إطلَاقًا، إنَّما بِالغَلَبة التي يُحَقِّقُها، وذلك مِن أجلِ وِلادَةٍ جَديدَةٍ قِيامِيَّة. فقد قَالَ القِدّيسُ إيرونيموس (٤٢٠م) "ما الّذي يُمكِنُ أن يَكونَ أجمَلَ مِن أن يُصبِحَ شَكلُ العَبدِ صُورَةَ اللهِ؟ الجَمالُ هُوَ جَمالُ الحُبِّ الإلَهيّ الّذي يَنحَدِرُ لِرَفعِ البَشرِيَّةِ، والصَّليبُ هو هَذا التَّعبير".

نَحنُ على صُورَةِ اللهِ كَشَبَهِه، ومَدعُوونَ لِتَحقيقِ هذا الشَّبهِ بالانتِصارِ على خَطايانا الّتي تَجعَلُنا عَبيدًا. وفي داخِلِ كُلِّ واحِدٍ مِنّا وَحشٌ مُفتَرِس، لا يُمكِنُ قتلُهُ إلّا إذا ارتَضَينا أن نَصلُبَ ذَواتِنا المَريضَة، ونَتعرَّى مِن كِبريائنا، عِندَها نَتحَرَّرُ مِن مَعاصِينا، ونَسطَعُ نُورًا وجَمالًا، وتَكبُرُ فينا المَحبَّة.

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] 1764 -1811

[2] Bataille de Fleurus (1794)

[3] La victoire en chantant nous ouvre la barrière ; La Liberté guide nos pas. Et du Nord au Midi la trompette guerrière a sonné l'heure des combats. Tremblez ennemis de la France, Rois ivres de sang et d'orgueil ; Le Peuple souverain s'avance : Tyrans descendez au cercueil !

[4] L’auteur est Venance Fortunat († 601), évêque de Poitiers à partir de 597. Elle est une imitation de l'hymne ambrosienne (St Ambroise de Milan +397).

[5] « Aujourd’hui du grand Roi l’étendard va marchant, Où l’Auteur de la chair vient sa chair attachant. »

[6] The Beauty of the Cross – Oxford University - 2006

[7] متى ٥١:٢٧