عاشِقُ الأُرثوذُكسيَّةِ هُوَ عاشِقُ "سُلّمِ الفَضائل" أو "السُّلَّمُ إلى الله". وهو عُنوانُ كِتابٍ وَضَعَهُ القِدّيسُ يُوحنّا السّينائيّ في القَرنِ السَّابِعِ الميلاديّ، وعُرِفَ بِالقِديسِ يُوحنَّا السُّلَّمي نِسبةً لِكتابِهِ الّذي أتى تَرجَمَةً لِحياةٍ نُسكيَّةٍ فَاقَتِ الأربَعينَ سَنةً، قسَّمَ فيهِ الفَضائِلَ على ثلاثينَ درَجَةً كَوَّنَت سُلَّمًا إلى السَّماء.

تُرجِمَ الكِتابُ مِن خِلالِ أيقوناتٍ، أقدَمُها مَوجُودٌ في دَيرِ القِدّيسَةِ كاترينا في سيناءَ، مِنَ القَرنِ الثَّاني عَشَر. نُشاهِدُ فيها رُهبَانًا يَصعَدُونَ السُّلَّم، مِنهُم مَن وَصَلَ إلى السَّماءِ حَيثُ استَقبَلَهم الرَّب، ومِنهم مَن وَقَعَ في جَهنَّمَ دَفَعتهُ المَلائِكَةُ الشياطين، وذَلِكَ لأنّهم أصرُّوا على خَطاياهم ولَم يَتُوبوا عنها. ونُشاهِدُ في أَسفَلِ الأيقُونَةِ مَجمُوعَةً مِنَ الرُّهبانِ تَتَضرَّعُ إلى الرَّبِّ ليَرحَمَهُم ويُنقِذَهُم مِنَ الجَحيمِ الّذي هُم فِيه. كمَا نُشاهِدُ في الزَّاوِيَةِ اليُمنَى للأَيقُونَةِ مَجمُوعَةً مِنَ المَلائِكَةِ فَرِحِين. تَتمَيَّزُ هَذِهِ الأيقُونَةُ بِالخَلفِيَّةِ الذَّهَبِيَّةِ النُّورانِيَّةِ التي تُشيرُ إلى المَلكوتِ السَّماويّ الصَّافي، والّذي كَشَفَ بِقُوَّةِ سَوادِ الشَّياطِينِ الحالِكِ ظُلمَتَهُم، لأنَّ نُورَ الرَّبِّ يَكشِفُ كُلَّ شَيء.

وهُناكَ أيقُوناتٌ أُخرى لِهذا الكِتابِ نُشاهِدُ فيها القِدّيسَ يُوحنَّا السُّلَّميّ واقِفًا يَحمِلُ في يَدَيهِ يَافِطَةً كُتِبَ علَيها: "إصعَدوا، إصعَدُوا يا إخوة". وفي أعلى هَذِه الأيقُوناتِ بابُ السَّماءِ مَفتوحٌ، يَقِفُ أمامَهُ الرَّبُّ مُحاطًا بِالمَلائِكةِ، يَستَقبِلُ الوافِدين. في الزَّاويَةِ العُليا المُقابِلةِ مَجموعَةٌ مِنَ الرُّهبانِ متأهِّبونَ في المَلكُوت، وفي الزَّاويةِ السُّفلى جَهنَّمُ والّذينَ سَقَطُوا فيها.

هذا مَشهَدٌ مَهيبٌ للغَايةِ يُخاطِبُ كلَّ واحِدٍ مِنّا دُونَ استِثناء.

قد يَبدو للوَهلَةِ الأُولى أنَّ مُدَوَّنَةَ السلَّميّ هذهِ، تَخُصُّ الرُّهبانَ حَصرًا، كما لَو أنَّهم مَدعُوون وَحدَهُم لِتطبيقِ سُلَّمِ الفَضائل. وَلَكِنَّ هَذا الأمرَ غَيرُ صحيحٍ على الإطلاق. فَهل رَبُّنا يَسوعُ المَسيحُ حَصَرَ القَداسَةَ بِأُناسٍ دُونَ سِواهُم؟ بِالطَّبعِ لا.

هُنا نَتوقَّفُ عِندَ ما قَالَهُ بُولُسُ الرَّسولُ للوالي، والّذي يَرسُمُ مَسارَ كُلِّ مُؤمِنٍ في هَذِهِ الحَياة: "سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ، الأَبْرَارِ وَالأَثَمَةِ. لِذلِكَ أَنَا أَيْضًا أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ".[1]

هذا يُوضِحُ أمرًا مُهِمًّا جدًّا. فِعلُ "أُدَرِّبُ" في الآيَةِ أعلاه، فِي أصلِهِ اللُّغَويّ اليُونَانيّ، هُو askō، ومِنهُ اشتُقَّت كلِمَةُascétisme التي تعني النُّسك. ما يَعني أنَّنا جميعَنا مَدعُوونَ لِنُدَرِّبَ ذواتِنا، مَعَ كُلِّ نَفَسٍ، لِنَحيا حَياةً مَسيحِيَّةً صَحيحَة، ويَكونَ ضميرُنا بِلا عَثَرَةٍ مِن نَحوِ اللهِ والنَّاس. وهذا يَتِمُّ مِن خِلالِ تَوبَةٍ مُستَمِرَّةٍ، وسعيٍ دؤوبٍ لاكتِسابِ الفَضائِلِ لِبُلوغِ السَّماء. عِندَها تَفرَحُ بِنا المَلائِكَةُ، كما في أيقُونَةِ السُّلَّمِ إلى اللهِ، وتَقولُ لنا: "إِنَّهُ هكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارًّا لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ".[2]

هُنا أيضًا يَرتَسِمُ أمامَنا جِهادٌ يَوميٌّ يَمتَدُّ طِوالَ رِحلَةِ حَياتِنا. فَالمَسيحيُّ إنسانٌ مُناضِلٌ ومُقاوِمٌ ومُجاهِدٌ ومُحارِبٌ مِن أجلِ الخَلاصِ الأَبَدِيّ، ولا يُمكِنُهُ التَّساهُلُ في هذا الأمرِ بَتاتًا، لأنَّ لا أَحدَ يَعرِفُ مَتى يَأتي السَّارِقُ[3]، لِذا علَينا أن نَكونَ دائِمًا مُتأهِّبينَ، وعلى أتمِّ الاستِعدادِ، حامِلينَ سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ، لِكَيْ نَقدِرَ أَنْ نُقاوِمَ ونَثبُتَ، مُمَنْطَقِينَ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ، وَحَاذِينَ أَرْجُلَنا بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ، مُتَدَرِّعينَ بِتُرْسِ الإِيمَانِ وخُوذَةِ الخَلاصِ، ومَعَنا سيفُ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ الله، فتنكَسِرُ أمامَنا جَمِيعُ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَة[4].

كَثيرونَ في هَذِهِ الدُّنيا، مِن سابِقِينَ ومُعاصِرينَ، تَكلَّمُوا على رِحلَةِ حَياةِ الإنسان، ووصفُوها بِتَعابِيرَ تَرجَمَت مَفهومَهُم لِهذِهِ الحَياة. في هذا السِّياقِ لَفَتَتني قَصيدَةٌ بِعُنوان "قِطارُ حَياتي Le Train de Ma Vie"، للأديبِ والفَيلسوفِ الفَرنسيّ Jean d’Ormesson[5]، يَقولُ فيها: "عِندَ الوِلادَةِ، نَصعَدُ في قِطارٍ حَيثُ نَلتقي أهلَنا، ونَعتَقِدُ بِأنَّهُم مُسافِرُونَ مَعَنا إلى الأبدِ، ولَكِنَّهُم سُرعانَ ما يَنزِلُونَ مِنَ القِطارِ، تارِكِينَنا وَحدَنا في سَفَرِنا. ومَعَ مرورِ الأيَّامِ والسِّنينَ يَصعَدُ القِطارَ آخَرُونَ، يُصبِحُونَ مُهِمّينَ بِالنِّسبَةِ لنا، أشِقّاءُ، أَصدِقاءٌ، أولادٌ، وحُبُّ حياتِنا. كَثيرُونَ سَيستَقِيلُونَ، حتَّى مَن هُو حُبُّنا، تَارِكينَ فَراغًا صَغِيرًا أو كَبيرًا. وآخَرُونَ يُغادِرون دُونَ أن نُلاحِظَ أنَّهم تَرَكُوا مَقاعِدَهم. هَذِهِ الرِّحلَةُ في القِطارِ يَكونُ مِلأها الفَرَحُ والآلامُ، والانتِظارُ، وإلقاءُ التَّحِيَّةِ، والمُغادَرَةُ والوَدَاع. النَّجاحُ في أن تَكونَ لنا علاقَاتٌ جيِّدةٌ مَعَ الركَّابِ جميعًا، أو على الأقلّ أن نُقَدِّمَ أفضَلَ ما عِندَنا، ومِن ذَواتنا، لأّننا لا نَدري في أيَّةِ مَحطَّةِ سَننزِل. لِذا، فَلنَعِشْ في فَرَحٍ، ولنُحِبَّ ونُسامِح. مِن الضَّروريّ أن نفعلَ هَذا، لأنَّه عِندَما سَننزِلُ مِنَ القِطارِ، يَجِبُ أن نَترُكَ ذِكرياتٍ جَميلَةً لِمَن يُكمِلُونَ الرِّحلَة. فَلنَكُن سُعدَاء بِمَا لَدَينا، وَلنَشكُرِ السَّماءَ مِن أجلِ هذه الرِّحلَةِ السَّاحِرَة".

ويَشكُرُ الأديبُ القارِئَ قائلًا: "شُكرًا لأنَّكَ كُنتَ أحدَ المُسافِرينَ في رِحلَتي، وإذا اضطُرِرتُ إلى النُّزولِ في المَحَطَّةِ التّالية، فأنا سَعيدٌ لِقِيامي بِرحلَةٍ قَصيرةٍ مَعَك. أُريدُ أن أَقولَ لِكُلِّ إنسانٍ يَقرأ هَذا النَّص، إنِّي أشكُرُهُ لِوُجودِهِ في حَياتي، ولأنَّهُ سافَرَ معي في قِطارِي".

مِمّا لا شَكَّ فيهِ، أنَّها قَصيدَةٌ جَميلَةٌ جِدًّا، وشَاعِريَّةٌ وفِيها الكَثيرُ مِنَ الانسانيّةِ والرُّقيّ.

فلا يُمكِنُنا إلّا أن نَقولَ، نَحنُ خُلِقنا لِنُسافِرَ في رِحلَةِ قَداسَة، فيها جَمالاتٌ ومآسٍ، ولكن بِيَسوعَ ومَعَ يَسوعَ وفِي يَسوعَ، نَعبُرُها بِقُوَّةٍ Dynamisme مِن لَدُنِ اللهِ، قوَّةٍ غَلَبَت هذا العالَم. ومَا تَسلُّقُنا "سُلَّمَ الفَضائِل"، الّذي تُخَصِّصُ لَهُ الكَنيسَةُ الأُرثُوذُكسيَّةُ الأحَدَ الرَّابِعَ مِنَ الصَّومِ الكَبيرِ، إلّا سَعيٌ دائِمٌ ومُتَواصِلٌ ودَؤوبٌ لِكَي نَكُونَ سُفراءَ مَحبَّةٍ في رحلةِ حياتِنا، نَنقُلُ السَّلامَ والحَقَّ أينَما حَلَلنا.

مَا أجمَلَ الخِتامَ مَعَ قَولٍ مِن هَذا الكِتاب: "صَارِعْ فِكرَكَ بِلا انقِطَاعٍ، وكُلَّمَا شَرَدَ طائِشًا عُدْ وأجمَعْه".

إلى الرَّبِّ نَطلُب.

[1] - أعمال الرسل ١٥:٢٤-١٦

[2] - لوقا ١٥: ٧

[3]- متّى ٤٣:٢٤

[4] - أفسس ٦

[5] 1925-2017